* الدين علاقة روحية جميلة وسامية تربط الانسان مباشرة بخالقه . الله أرسل رسله ، وأنزل كتبه وأديانه لخدمة الانسان ومساعدته على معرفته ، وكيفية طاعته ، وإدراك طرق عبادته والتقرب منه ، والقيام بواجبه نحوه . كل الديانات التي لها كتب منزلة كاليهودية والمسيحية والاسلام ، والتي لها كتب غير منزلة وتؤمن بوجود خالق ، تشترك في محاولاتها لتعريف الانسان بخالقه ومد جسور من الفهم بينه وبين الله .
* الديانات القديمة ألتي سبقت الديانات الموحدة كالبابلية ، والآشورية ، والكنعانية ، والفرعونية ، والهندوسية ، والزرادشتية ، والكنفوشستية ، كانت مختلفة في تفسيرها للوجود عن التي جاءت بعدها ، وإن كل ديانة منها كان لها تفسيرها ، أو حتى تفاسيرها للوجود الالهي ، والكون ، والحياة ، والموت . وكان لها عقائدها ، وشعائرها ، وعباداتها ، وأعيادها الدينية المتبعة والمميزة ، وكهنتها ، وأتباعها المختلفون في درجة تدينهم كما نحن مختلفون في درجة تديننا اليوم . لقد أظهرت شوق الانسان إلى معرفة خالقه ، ومعرفة نفسه ، وتطوير قدرته على البقاء ، وفهم معضلة الوجود وسبر أسراره ، ودفعته إلى التفكير المستمر الذى أدى إلى تطوير الحضارة العالمية وأغنائها بالعلم والمعرفة والبناء المادي والعقلي .
* تعاليم الأديان وبدون إستثناء ، وإضافة إلى أبعادها الميتافيزيقية والالهية ، تضمنت نصوصا أخلاقية متشابهة إلى حد ما ، هدفها تنظيم علاقات الأفراد في مجتمعاتهم . ولهذا فإنها جميعا حرمت كل ما يضر الناس كالكذب ، والنفاق ، والبغضاء ، والقتل ، والسرقة ، والنصب ، والاحتيال ، والزنى إلخ . واعتبرت هذه الممارسات آثاما يعاقب الله الناس عليها عقابا شديدا ، ويحرم مرتكبيها من دخول الجنة ، إلا إذا أراد سبحانه أن يفعل غير ذلك بإرادته وحسب تقديره ، ووضعت قوانين تحكم حياة الأسرة والجماعة ، وبعضها إحتوى على نصوص يمكن أن يكون لها تطبيقات سياسية واقتصادية وقضائية .
* ألاديان كلها ربطت التدين الحقيقي بالسلوك والعمل الخير، ورفضت النفاق الديني القائم على الخداع ، والمظهر ، والابتعاد عن الحق والخير ، واعتبرت النفاق من كبائر الذنوب . قال عليه الصلاة والسلام " المؤمن من أمنه الناس والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ." المؤمن من أمنه... كل الناس ... وإن اختلف معهم في دينهم ، وكان مؤمنا بالله ومن أتباع ديانات أخرى . إنها دعوة واضحة وصريحة تقول إن من واجب كل من آمن بالله ، سواء كان مسلما أو من أتباع دين آخر ، أن يعامل أخاه الانسان بما لا يضره أو يؤذيه .
* تثبت الاحصائيات التي أجريت في عام 2014 تراجع الدين والتدين في معظم الدول الغربية ، وانتشار النزعات اللادينية أو حتى الالحادية إلى درجة أن نسبة الذين لا يؤمنون بدين ما من أللاأدريين ، والملحدين في جميع دول الاتحاد الأوروبي ، وأستراليا وصلت إلى 49 % من عدد السكان ، وكانت نسبة المؤمنين منخفضة جدا في بعض الدول الأوروبية كالسويد حيث بلغت نسبة اللادينيين والملحدين 82 % ، وفي فرنسا 73 % ، والدنمرك وهولندا 72 % ، وبريطانيا وبلجيكا 63 % ، اليابان 65 % . وتقول نفس الاحصائيات أنه في عام 2100 فإن الاسلام سيكون أكبر دين في العالم من حيث عدد أتباعه ، وإن نسبة المسلمين في الاتحاد الأوروبي ستصل إلى 10 % ، أي ما يزيد عن خمسين مليون من عدد سكان القارة في عام 2050 ، وإن نسبة المؤمنين والممارسين للدين ستستمر في الانخفاض في الدول الصناعية والديموقراطية .
* والملفت للنظر أن نسب الجريمة بكل صنوفها هي الأقل في الدول الأقل تدينا في العالم كالنرويج ، والسويد ، والنمسا ، وايسلندا ، وسويسرا ، وهولندا ، وسان مارينو . وبسبب إنخفاض نسبة الجريمة في هذه الدول فإن بعضها أغلق عددا من السجون وحولها إلى متاحف . وعلى النقيض من ذلك ، فان أعلى نسب جريمة ، ونصب ، واحتيال ، وسرقات في العالم موجودة في دول متدينة مسيحية ، وإسلامية ، وهندوسية منها جنوب افريقيا ، وهندوراس ، وفنزويلا ، والهند ، والعراق ، ونيجيريا ، ومصر ، وجامبيا ، والولايات المتحدة التي يؤمن 75 % من سكانها بالله وتعتبر دولة متدينة بالمقارنة مع أوروبا . إن معظم الذين يرتكبون الجرائم والمخالفات القانونية بأنواعها في هذه الدول ، هم من الطبقة الفقيرة المحدودة الثقافة والتعليم ، وإن معظمهم متدينون ويعبدون الله حسب دياناتهم .
* هذا يعني ... أن التدين الذي لا يستند إلى ثقافة عامة وضمير حي يراقب تصرفات صاحبه ... ، وإلى نقص معرفي بشؤون الدين وأهدافه ، ويفتقر إلى وعي الانسان وفهمه لحقوقه وحقوق غيره ، ليس كافيا لتهذيب النفس وإبعاد الانسان عن الجريمة . ولهذا يمكننا القول أن أهم العوامل الشخصية التي تحد من الجريمة بأنواعها هي : مستوى الانسان العلمي والثقافي ، وقدرته على إنتقاد تصرفاته وتبين الجوانب القوية والضعيفة من شخصيته ، واستعداده لانتقاد نفسه وتصيح أخطائه ، وقوة عزيمته وإرادته في الدفاع عن الحق والتصدي للظلم ، وفهمه لحقوقه وحقوق الآخرين ، وفهمه لجوهر الدين الذي لا يقبل إلا الحق والعمل الخير إلخ . في غياب هذا يظل التدين مجموعة من المظاهر الخادعة ، التي تتناقض مع جوهر وطبيعة الدين ، ولا تأثر تأثيرا مهما في سلوك الأنسان واستقامته .
* التدين في الوطن العربي ملاحظ . نحن أكثر الناس التزاما بالتدين ومظاهره : مساجدنا والحمد لله تمتلىء بالمصلين من جميع الأعمار ، ونقيم الصلوات الخمس في أوقاتها ، ونحن من أكثر الناس ذكرا لله ، ومن أكثرهم تسبيحا ، ومن أكثرهم حديثا عن الدين ، ومظاهر التدين كاطلاق اللحى شبه عامة بين الشباب والكهول ، وعلامات السجود على جبهاتنا مشاهدة في كل مكان ، ونساؤنا معظمهن محجبات ، ونتكلم عن رب العالمين سبحانه وتعالى وعن دينه الحميد في بيوتنا ، وفي المقاهي ، والمساجد ، والشوارع ، واصبحت مراكز تحفيظ القرآن الكريم متواجدة في كل مكان ، وبنينا مسجدا في كل زاوية ، وعندنا من الوعاظ أعدادا لا حصر لها ، ومعظم أحاديثنا ومناقشاتنا تدور حول الدين ، وأهمية التدين ، والجنة ، وجهنم ، والعذاب ، والحسنات ، والسيئات .
* الظاهر يوحي باننا أمة تقية ، تدافع عن الحق ، وتطبق العدل الديني كما اراده الله ورسوله ، لكن سلوكنا يثبت عكس ذلك ، وينطبق على وضعنا النفاقي المتدني في قيمه ، ما قاله الرسول عليه السلام " أتدرون ما المفلس ؟ المفلس بالمفهوم العام : من لا درهم له ، ولا دينار ، لا يملك مالا إطلاقا . فقالوا : المفلس فينا من لا درهم له ، ولا متاع . فقال : المفلس من يأتي يوم القيامة ، بصلاة ، أو صيام ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته ، قبل أن يقضي ما عليه ، أخذ من خطاياهم ، فطرحت عليه ثم يطرح في النار .
" * والسوال هو لماذا زادت مظاهر التدين وتراجعنا أخلاقيا وحضاريا وسياسيا وعلى جميع الاصعدة.؟ الحقائق تقول أن مظاهر التدين هذه لم تترجم إلى حقائق سلوكية كما يقول الدين . ألذي حدث هو أن موجة التدين هذه التي مضى عليها نصف قرن تقريبا ... لم تغير فينا إلا المظهر .... وإن مجتمعنا قد تخلف ، وثقافتنا تراجعت ، وأخلاقنا إنحطت فزاد الكذب ، والنفاق ، والغش ، وقلة الأدب في التعامل ، والحرمنة ، والدعارة ، والنصب ، والاحتيال . وتفككت العلاقات الأسرية ، وانهارت قيم الثقة والمصداقية بين أفراد الأسرة الواحدة ، وبين أفراد المجتمع ، وبين الجماعات الدينية المسيسة والغير مسيسة ، وبين الأحزاب السياسية ، وبيننا وبين أتباع الديانات الأخرى ، وزادت النعرات الطائفية ، وظهرت بيننا عشرات الأحزاب الدينية التي تختلف في كل شيء ، ولا تقتل إلا المسلمين ، ولا تدمر إلا أوطان المسلمين ، ولم تطلق رصاصة واحدة على أعداء المسلمين .
* ما ذكرته ليس فرضيات وهمية ، وإنما هي حقائق يعرفها الجميع ، وإن التقارير الحكومية الرسمية تؤكد أن الجريمة بجميع أنواعها إرتفعت إرتفاعا رهيبا في كل الدول العربية خلال الثلاثة عقود الماضية . وتشير تقارير وزارات الداخلية العربية الى تنامي مخيف في جرائم السرقة ، والاحتيال ، والقتل ، والاغتصاب ، والاعتداء بالأسلحة النارية والبيضاء في المدن العربية ومناطق الكثافة السكانية في العراق ، والجزائر ، ومصر ، والأردن ، ولبنان ، ودول الخليج ، وسوريا .
* فقد ذكرت صحيفة الرأي الأردنية في عددها الصادر يوم الجمعة 27-5-2016 ، أن الجرائم الصغرى والكبرى والجنح ارتفعت إرتفاعا كبيرا خلال السنوات الماصية ...من 44722 عام2008 الى 163143 عام 2013 ... صحيفة الشعب المصرية الصادرة في 23 -1-2016 قالت " كشف تقرير لقطاع الأمن عن ارتفاع معدلات الجريمة بشكل عام ، خاصة القتل والسرقة بالاكراه ، وسرقت السيارات وان جرائم القتل ارتفعت 130% " . وأضافت أن هناك " 29000 بلطجي ومسجل خطيرارتكبوا جرائم قتل واغتصاب وخطف .
" * الحروب ، والفقر ، والبطالة ، والظلم السياسي ، والضغوط الاجتماعية والنفسية ، والجهل من الأسباب التي أوصلتنا إلى هذا الوضع . لا أدعي بانني أعرف كل الأسباب التى أدت بنا إلى ما نحن فيه ، لأنها متعددة ومتنوعة في مصادرها ، وفي أسبابها ، وأماكن حدوثها . لكنني أعتقد أن ما حدث لا علاقة له بجوهر الدين ونصوصه وتعاليمه ، أن كل الديانات ترفض الجريمة والاعتداء على الآخرين . الدين بريء من هكذا تصرفات لانه يريد لأتباعه الخير والصلاح ، ويريد السلام وليس القتل ، ويريد مجتمعات فضيلة وكرامة إنسانية ، وليس مجتمعات رذيلة وانحطاط . د. مصطفى محمود رحمه الله فال " ألاسلام هو الحل ." أنه لم يقصد إسلام المظاهر والاسلام الشكلي . إنما قصد من قوله هذا جوهر الدين ... أنا لأعتقد أن الاسلام الذي سيكون "هو الحل " هو ... إسلام المعرفة ، والعلم ، والعمل ، والثقافة ، ومكارم الأخلاق ، والأدب في التعامل مع كل الناس ، والحرية ، والعدالة ، والديموقراطية ... إنه إسلام الفعل وليس إسلام المظهر والشكل...!