* كل إنسان يرغب في أن يكون من أسعد الناس ، وأن تكون حياته مفعمة بالبهجة والسرور ، وأن يستمتع بكل لحظة من وقته ، وأن يلغي الهموم من تفكيره . من الصعب تعريف السعادة ، لأن فهمها والشعور بوجودها عملية فكرية وإدراكية معقدة تعتمد على إعمال العقل وتطوير المعرفة ، وعاطفية يحكمها الوجدان والعواطف والخيال ، ويختلف الاحساس بها وفهم أهميتها ومعناها من شخص لآخر ، ومن مجتمع لآخر ، ومن ثقافة لأخرى . ورغم ذلك ، إلا أنه يمكننا القول بأنها ... شعور الانسان بالسرور والبهجة والاستمتاع الذي يرضيه ويقنعه بأن حياته جميلة ، ومستقرة ، وخالية من المنغصات والضغوط النفسية والجسدية .
* ألانسان كان ، وما زال ، وسيظل في كفاح وصراع لا يتوقف من أجل البقاء . لكن متطلبات البقاء والحياة المريحة تتغير وتزداد تعقيدا وتكلفة باستمرار . إن عالم القرن الحادي والعشرين الذي نعيش فيه ، يتميز بالتغير الحياتي والتقني الهائل الذي وفر لنا وسائل راحة ورفاهية لم يعرفها أجدادنا وحتى آباؤنا ، ووضع على عاتقنا أعباء إقتصادية ، وعلمية ، وثقافية ، وتدريبية مرهقة تتطلب الكثير من الجهد للحصول عليها .
* كل واحد منا أناني بشكل أو بآخر، ونفسه مركبة من الخير والشر ، ومزيج من المتناقضات الأخرى . لا يوجد في الوجود إنسان كامل ، والكمال لله ، وللأنبياء ، والقديسين كما تقول الديانات . وكما قال المسيح عليه السلام " من منكم بلا خطيئه ؟ " ، ولكننا جميعا كبشرنستطيع أن نتغير إلى الأفضل ، وبدرجات مختلفة من النجاح إذا حاولنا ذلك ، وكانت عندنا الارادة على تحمل الصعاب والاستمرار . فمنا من يحاول كثيرا ، ويتغير كثيرا ، ويحقق الكثير في حياته ، ويصلح وضع نفسه ، ويساهم في تحسين أوضاع الآخرين . ومنا من يرفض التغيير، ولا يحقق الكثير في حياته لا له ولا للآخرين ، ويتحول إلى فيلسوف متخصص في تقييم الناس ، واستغابتهم ، والتقليل من شأن النجاح والناجحين ، وانتقاد كل شيء وكما نقول ...ما بعجبوش العجب...
* االتقدم الكبير الذي طرأ على عالمنا وحضارتنا ، أدى إلى إرتفاع هائل في تكلفة العيش وأسعار العقار في كل مكان ، وإلى إنتقال معظمنا من الحياة الريفية المتدنية التكلفة إلى الحياة الحضرية المكلفة . هذا الانتقال الكبير إلى الحداثة الحضارية والعصرنة ، وإلى أنماط ونشاطات حياة يومية متنوعة ودائمة التغير، جعل الانسان دائم السعي لكسب عيشه وتغطية نفقات حياته . لقد وضعه في تنافس دائم مع الآخرين ، وأضعف التكافل الأسري والتعاون بين الناس ، وزاد من حدة النزعة الفردية والاعتماد على الذات ، وفكك الكثير من الروابط بين الأفراد والجماعات . فسادت الأنانية وتحكمت في النفس البشرية ، وتراجع التفكير الجمعي القائم على ... ( نحن- أي أنا وغيري ) نكون شراكة إنسانية تخدم الجميع ... وأصبحت نحن في خبر كان ... ورفعت راية ...( أنا ، وأنا ، وأنا ، ولا أحد غيري أنا ) ... . ولهذا فإن المجتع العالمي الحالي ، وخاصة في الدول الصناعية ، يمكن وصفه بمجتمع النزعة الفردية ..الأنا.. التي أنتجت أمراضا حضارية متعددة ، والحقت ضررا بالغا في العلاقات المجتمعية ، وفي التضامن الأسري ، والتكافل الاجتماعي ، ويبدو أن هذه القيم الجميلة والمفيدة ستستمر في التراجع على المستوى العالمي .
* يمكننا القول أن سعادة الانسان في عالمنا البالغ التعقيد هذا ، تتطلب صحة جيدة ، ومعرفة وثقافة مستنيرة ، وأمن إقتصادي يتمثل في دخل مادي مستمر وكاف لسد إحتياجاته الأساسية ، وعاطفة وخيال تمكنه من الاستمتاع بوقته ، وسلوك أخلاقي يكسبه إحترام المجموعة البشرية التي يعيش بينها ، ووجود هدف في حياته يسعى إلى تحقيقه . في عالم الحيوان البقاء والسيطرة للأقوى والأكثر قدرة على البطش وتهديد وجود الآخر ، وفي عالم الانسان السيطرة للأقوى والأذكى والاكثر معرفة وقدرة على الانتاج والتجديد والتطوير والتحكم بالآخر.
* الحيوان محدود التفكير وتتحكم به غرائزه . والانسان لا حدود لتفكيره ، وتتحكم في تصرفاته وقدراته العقلية والابداعية أنانيته ، وحبه للتميز والتملك . الحيوان يقتل بوحشية ليأكل ، أما نحن معشر البشر فإننا نستخدام القوة للتحكم في الآخر ، وفي قتله ، وفي القضاء عليه ، وتدمير حياته بالكامل ، ولهذا قال أحد القدماء .... " كلما زادت معرفتي بالانسان زاد حبي لكلبي " .... ، ورغم ذلك فإن الاختلاف الجوهري هو في قدرتنا على إستخدام العقل في التفكير والتحليل والتعلم السريع ، وفي إيجاد حلول لمشاكلنا قد تجنبنا اللجوء إلى العنف ، وتبعدنا عن أذى القوة وغطرستها . إن السعادة والاحساس بالجمال كامنة في الذات والتكوين العقلي للفرد ، وينطبق عليها قول المفكر البريطاني ديفد هيوم "جمال الأشياء لا يكون إلا في عقل من يمعن النظر فيها .
" * الانسان الذي يريد الحياة السعيدة المريحة يتحكم في أنانيته ، ويكون رقيب وقاضي نفسه ، فيهذبها أفضل تهذيب ، ويبعدها عن ضيق الأفق والانفعال ، وعن صغائر الأمور ، ويبتعد عن مراقبة الناس ، ولا يتدخل في شؤونهم ، ولا يركز على معرفة نواقصهم وأخطائهم ومآسيهم ، ويحاول دائما أن يرى الجانب الساطع الطيب من شخصياتهم ، ولا يصدر أحكامه عليهم كيفما يشاء ، ويسامح من يسيء إليه ... " من راقب الناس مات هما " ... وينشغل بتطوير وأنسنة نفسه ، ويغنيها في العلم ، ويصقلها بالثقافة المتجددة والمعرفة والبحث عن الحقيقة ، ويحد من جموحها وحبها للسيطرة ، ويعلمها التواضع والعطف والمروءة والايثار ، ويحررها من الخوف والجهل ، ويشرع لها باب الحرية الفكرية لتبحث في ماهية كل شيء دون خوف من أحد . يقول الشاعر الفرنسي فولتير " لا يكون الانسان حرا إلا عندما يود أن يكون .
" * الأحمق يفكر دائما أنه حكيم وواسع المعرفة ، والحكيم يفكر دائما أنه غبي وأحمق ومحدود المعرفة ، وإنه لم ينجز شيئا يستحق عليه الئناء والشكر . الحكمة والمعرفة قد توصل الانسان الى سعادة غامرة لأن عظمة الحكيم تتجلى في نبله ، وسمو تفكيره ، وتضحيتة ، وعمله من أجل المصلحة العامة الذي يستفيد منه الكل ، وفي مساهمته في نشر الثقة والتراحم والود والسلام بينه وبين أسرته ، وأقاربه ، وكل من يتعامل معه ، وفي طاعة ربه واحترام أديانه ومخلوقاته . إنه الانسان الذي وصفه أحد الشعراء بالقول :
إن الكريم إذا نالته مخمصة ... أبدى إلى الناس ريا وهو ظمآن
يجني الضلوع على مثل اللظى حرقا ... والوجه غمر بماء البشر ملآن