*عانى أجدادنا الأوائل من قسوة الصحراء ، وحرارتها الشديدة ، وجفافها ، وندرة مصادر العيش فيها . في بيئة لا تعرف الرحمة كهذه ، كان لا بد لهم من التكاتف والتعاون ، وتكوين التجمعات القبلية من أجل مواصلة البقاء . و بسبب شحة مصادر العيش وندررتها وضرورة إيجادها ، انتشرت بينهم الحروب ( الغزوات ) التي كانت وسيلة للثأر والانتقام ، وتأمين العيش ، وفرض السيطرة والنفوذ على القبائل الأخرى . الغزو كان تقليدا قبليا مباحا . ولهذا كانت هذه القبيلة تغير على تلك وتستولي على مواشيها ، وخيولها ، وأموالها ، وتسبي نساءها ، وأطفالها ، وتقتل وتأسر ما تستطيع من محاربيها ورجالها . هذه الحالة من التهديد الدائم لمصير الفرد ، ألزمته على الانتماء لقبيلة ما لحمايته هو وأسرته وممتلكاته من غزوات القبائل الآخرى ، ومساعدته على العيش ومواصلة البقاء في بيئة الصحراوية .
* البدوي العربي لم يعرف الدولة ، ولم يخضع إلى نظام أو سلطة سياسية تدير شؤونه غير سلطة قبيلته . دولته كانت قبيلته ، وشيخها سيده الذي يحميه ، ويحل له مشاكله ، ويعلي ويخفض شأنه بين أفرادها . ألولاء في القبيلة كان للقبيلة وشيوخها ، وليس لوطن ما ، لانه لم يكن في النظام القبلي الدائم التنقل وطن يستقر فيه. الوطن في المفهوم القبلي هو الارض التي تقطنها القبيلة ، وقد يتغير في أي وقت حسب توفر المرعى والماء وضروريات البقاء الأخرى .
*تاريخنا وتراثنا بشقيه الجميل والقبيح ، وواقعنا الحالي شاهد على أننا أمة بدوية ، وإن البداوة متجذرة في تكويننا النفسي والعقلي والسلوكي ، وفي تعاملنا مع الآخر في مجتمعنا ، وفي فهمنا للعالم وتعاملنا معه . الدليل على أن البداوة العقلية ما زالت تتحكم فينا هو أن معظم الدول العربية حتى يومنا هذا مقسمة قبليا ، ومناصبها العليا موزعة قبليا ، وجيوشها مبنية قبليا ، وان العادات والتقاليد القبلية كالثار ، والعنجهية ، والاعتداد بالنفس ، والولاء والانتماء للقبيلة وشيوخها ، ونصرة ابن العشيرة ، أو القريب والوقوف الى جانبه ظالما او مظلوما ، ما زالت تتحكم في عقولنا المبدونة ، وفي تفكيرنا وتصرفاتنا .
*والمدهش أن قبائلنا تزداد قوة ونفوذا سياسيا واجتماعيا . لقد نقلناها من الخيمة إلى البيت والعمارة والمدينة والقرية ، ووظفنا شبابها في دوائر الدولة والجيش ، وانتقل شيوخها إلى بيوت حديثة مريحة في العاصمة والمدن الأخرى ، وأصبحوا هم ووجهاء القبائل من كبار موظفي الدولة ، ونوابا في البرلمان ، ووزراء ، ورؤساء وزارات ، وكبار ضباط في الجيش الخ. ولهذا يمكن القول أننا مازلنا قبائل متعددة ومتناحرة ، وإن حكامنا الذين يقودون وطننا ويتحكمون بنا الآن ، هم شيوخ مشايخ ، أو ورثة شيوخ مشايخ نفس العشائر .التغيير الذي حدث هو أننا استبدلنا... لقب شيخ المشايخ القديم ... بإسم حركي هو الأمير ، أو الملك ، أو السلطان ، أو أبقيناه كما هو " ..الشيخ الفلاني ..! " أو حدثناه وغيرناه إلى لقب رئيس الدولة الذي يعني ...رئيس القبيلة !
*عقليتنا كمواطنين ما زالت قبلية كما كانت ، على الرغم من أن قلة ضئيلة جدا منا ما زالت تجوب الصحاري القاحلة ، وأن حوالي 90 % منا أصبحوا حضرا يعيشون في مدن وبلدات وقرى ... أي أننا مجتمع حضري السكن وبدوي التفكير والولاء والانتماء ... إننا نعرف الآخرين على أنفسنا بإنتمائنا القبلي وليس الوطني . فيقول لك أستاذ الجامعة وحارس العمارة إنه قحطاني ، أو عدناني ، أو عازمي ، أو لامي إلخ . ويعتز كل منهم بانتمائه القبلي . ألوطن في مفهومنا هو قبيلتنا ، وانتمائنا إليه وولاءنا له ياتي من خلال فهمنا القبلي له ، ومن خلال ممارساتنا السياسية والاجتماعية المرتبطة بقبائلنا وعشائرنا .
*الحاكم العربي يدعي بأن دولته ديموقراطية ودليله على ذلك هو وجود مجلس نواب منتخب أو معين ، ووجود أحزاب سياسية في بعض الدول ، وإنه يجري إنتخابات رئاسية وبلدية يفوز فيها هو وأتباعه من المنافقين . طبعا هذه أساليب خداع للشعوب لأن الكل يعلم أنه لا يوجد ديموقراطيات حقيقية في الوطن العربي . الذي يوجد عندنا هو ... بدوقراطيات ... تطبق النظام ....البدوقراطي.... الذي يمنح السلطة كلها ... " لمولانا " أو " ولي ألامر" أو " والد الجميع ." كما يسمونه ... ألديموقراطية الحقيقية تفصل بين السلطات الثلاث ، وتقوم على تداول السلطة عن طريق الانتخاب الحر ، وعلى إطلاق الحريات العامة ، وإقامة دولة القانون ، ولا تسمح قوانينها للحاكم أن يحكم مدى الحياة .
*الواضح في الانتخابات النيابية العربية أن الذين يفوزون فيها هم أبناء العشائر والقبائل المرتبطة بالدولة والمؤيدة لها ، وأبناء العوائل الغنية المتنفذة والداعمة للنظام ، والذين يستغلون الدين لأغراض سياسية وهم يزدادون عددا يوما بعد يوم ، وأصبحت لهم أحزابهم السياسية التي لبست عباءة الدين ... والدين الحنيف منها براء . المجالس النيابية في العراق ، والكويت ، واليمن ، والاردن ، وسوريا ، ولبنان الخ . تثبت أن الذي ينجح في هذه الانتخابات هو الانتماءات العشائرية ، والدينية ، والعائلية ، وأولئك القادرون على شراء الأصوات بالمال والرشوة ، وأن ديموقراطياتنا العربية هي .. بدوقراطيات .. تعبر تعبيرا حقيقيا عن جهلنا السياسي ، وتخلفنا الحضاري ، وعن عقليتنا القبلية الرجعية ، العاجزة عن فهم العالم الحديث ، والرافضة للتفاعل معه والاستفادة من إنجازانه .
*في الدول الديموقراطية الذي يترشح لمجلس النواب ، يكون على مستوى علمي مقبول ، ويطرح في حملته الانتخابية برنامجا سياسيا وأهدافا تهم الناخبين ، ويشرح لهم كيف سيعمل على تحقيقها ، وله مصداقية إجتماعية ، وفي معظم الأحيان عنده خبره في العمل مع الناس . أي إن الناخب الغربي يتخذ قراره بالتصويت بناء على فكر المرشح المطروح ، وثقافته السياسية ، وقدرته على ترجمة أقواله إلى واقع .
*للأسف الشديد الناخب العربي الذي لا يعرف ما هي الديموقراطية لأنه لم يجربها في حياته ، والذي يعاني من الجهل والتخلف ، والمقيد الحرية بقبليته ، ..لا.. يعطي صوته لمرشح متعلم له برنامج سياسي واضح ممكن التحقيق ، ولهذا فإن قلة من المثقفين الغير مدعومين من قبائل ، أو عوائل ، أو أحزاب ، أو حتى جمعيات ، ينجحون إذا ترشحوا للانتخابات . الأغلبية الساحقة من الذين يترشحون كممثلين للعشائر، ينجحون لان أبناء عشائرهم يصوتون لهم كواجب قبلي . إن الانتخابات العربية هي في الحقيقة حفلات عشائرية ، وعائلية ، ودينية مسيسة ، ورشاوي ، وشراء أصوات وذمم ، ونفاق سياسي . وإن مصلحة القبيلة ، ونفوذ العائلة ، والحزب السياسي المتأدين ، وشراء الأصوات ، هي التي تقرر أين يذهب الصوت ، وليست مصلحة المواطن والوطن .
*هذه الانتخابات النيابية لا تستحق المبالغ التي تصرف عليها من رشاوي ، وشراء أصوات ، وحفلات ، ومهرجانات تهريجية مضحكة ، وإعلانات . إنها مسرحية للضحك على الشعوب والتحكم بها بإسم الديموقراطية . مجالس النواب العربية لا سلطة لها ، وليست سوى ... تجمعات بدوقراطية وديكورات ... يستغلها الحاكم لخداع الشعب . إنها غالبا ما تتكون من ... جهلة ، ومنافقين ، وقبليين ، وأشباه أميين ، وعملاء مخابرات ، وإنتهازيين لا يفهمون ما هي الديموقراطية الحقيقية ... ، ولا يستطيعون الاعتراض على أي شيء يريده الحاكم ، وإنه لا حول لهم ولا قوة ، وشغلهم هو تمرير القرارات والسياسات التي يريدها سيدهم بدون اعتراض أو ضوضاء .
*الأمة التي يقودها ، ويدمقرطها ، ويسن قوانينا ، ويشترك في رسم سياساتها ، ويحظى باحترام وتقدير الناس فيها أناس تافهون كهؤلاء ، ويسمون أنفسهم نواب الشعب ويدعون تمثيله ، لا مستقبل لها بين أمم الأرض الديموقراطية الحديثة . وخير ختام لهذا المقال هو قول رسول الله عليه الصلاة والسلام ..." يأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ، ويكذب فيها الصادق ، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين ، وينطق فيهم الرويبضة " قيل : يا رسول الله وما الرويبضة ؟ قال " الرجل التافه يتكلم في أمر الأمة ."