ألمرحلة الابتدائية في تعليم الطفل تمثل السنوات التكوينية التي تبنى فيها شخصيته ويتحدد فيها مستقبله . في هذه المرحلة تتشكل أسس النمو والتطور التي ترتكز عليها حياة الطفل في طفولته وشبابه وحتى نهاية حياته ، وتكون الأساس في فشله أو نجاحه .
ولهذا تبنى فلسفة التربية المبكرة على قواعد من أهمها تمكين الطفل من النمو العقلي ، والادراكي ، والجسدي ، والأخلاقي ليصبح الانسان المؤهل للمشاركة في بناء وتطوير مجتمعه ، والواعي بالجوانب الأخلاقية الهامة له وللآخرين ، والمدرك للقيم السائدة في مجتمعه ، والقادر على تبين إحتياجاته واحتياجات الآخرين في مجتمعه والتوفيق بينها ، والواثق من نفسه في التعامل مع المشاكل التي تواجهه بأسلوب منطقي ومتوازن ، والدائم العمل على تطوير قدراته العلمية والثقافية ، والمتمكن من التعبير عن ذاته بثقة واحترام . أي أن هدف هذا النظام التربوي هو خلق الانسان المسلح بالعلم والثقافة ألذي يدرك أهمية وطنه واحتياجاته ، ويساهم مساهمة فعالة في بنائه وخدمته .
ولهذا فانه من المهم جدا أن يتوفر للطفل في هذه الرحلة نظام تعليمي متميز قوامه المدرسة النظيفة الحديثة التجهيز، والمدرس المؤهل تأهيلا ممتازا علما وثقافة ، والمنهج الحديث المتوازن والقائم على حقائق علمية مثبتة لا شك في مصداقيتها ، والادارة المدرسية ألداعمة لاحتياجات التعليم الحديث الضرورية للطالب والمدرس ، والتقنية الحديثة الصفية اللازمة في التدريس ، والنشاطات الصفية والغير صفية التي تساهم في نمو الطفل الطالب جسدا وعقلا وروحا ، والقوانين والسياسات والدعم المالي اللازم .
تهتم الدول الصناعية والحديثة منها إهتماما كبيرا بالتعليم ، وخاصة التعليم الابتدائي وتصرف عليه بسخاء ، وتبني له أحدث المدارس ، وتوفر له أحدث المناهج والتقنيات . وتعد له المدرس ألعالي التأهيل في جامعاتها ، وتدفع لهذا المدرس مرتبا شهريا عاليا ، وتمنحه الكثير من الامتيازات والضمانات التي تعلي من شانه الاجتماعي ، وتضع القوانين التي تحميه من إدارة مدرسته ومن الدولة ليظل حرا في تفكيره ، وقادرا على القيام بدوره بتميز ونزاهة . ألدولة تفعل ذلك بسسبب إدراكها لدور التعليم الابتدائي المحوري في بنائها ، وقناعتها بأن المدرسة الابتدائية هي مصنع الرجال والنساء القادرون على بناء الوطن المتطور الحديث القوي الذي يخدم الكل الاجتماعي ، ويوفر لكل مواطن الحماية ووسائل الحياة المادية والأخلاقية الضرورية .
في هكذا نظام وبيئة تعليمية ملائمة ، قائمة على حرية التفكير وتشجيعه واحترام العقل ، يمكننا أن نعلم الطفل في السنوات التكوينية كيف يفكر ، وكيف يعمل عقله ويستخدم المنطق والتضاد والتساؤل في فهم شؤونه الحياتية والتعامل معها ، وليس كيف يحفظ ويتذكر وينقل المعلومات .
ألحفظ غيبا والنقل المعلوماتي هما أدنى أنواع التفكير وأقلهما رسوخا في العقل وصقلا له . ولكن إعمال العقل ، والتفكير التحليلي هما أكثر أنواع التفكير تقدما وأهمية ونفعا . لذلك يجب أن نعلم الطفل أن يكثر من الأسئلة والتساؤل ، وأن نشجعه ونثني على جهوده ومحاولاته في تطوير ذاته ، ونحثه ونشجعه على التفكير والتعلم ، ونشاركه في محاولاته واجتهاداته المعرفية والعقلية التي تساعده في تطوير ثقته بنفسه ، وتعزز وتنمي قدراته الادراكية والتخيلية ، وتؤصل وتعمق المفاهيم القيمية والاخلاقية والجمالية المكونة لشخصيته .
تفيد تقارير ألمؤسسة ألأمريكية غير ألربحية والتي نشرتها مجلة " أم بي سي تايمزM B C Times “ " في عام 2015 أن أفضل 10 أنظمة تعليم إبتدائي وثانوي في العالم كانت كما يلي : كوريا ألجنوبية ألأولى ، واليابان ألثانية ، وسنغافورة ألثالثة ، وهونج كونج ألرابعة ، وفنلندا ألخامسة ، وبريطانيا ألسادسة ، وكندا ألسابعة ، وهولندا ألثامنة ، وإيرلندا ألتاسعة ، وبولندا ألعاشرة . والملاحظ هنا هو أن جميع هذه الدول ديموقراطية ، وعلمانية ، ومتطورة جدا صناعيا ، واقتصاديا ، وثقافيا وتقع في ثلاث قارات مختلفة .
وكذلك فانه لا يمكننا أن نتجاهل العلاقة الوثيقة بين التقدم الذي حققته هذه الدول على جميع ألأصعدة وأنظمة تعليمها ، وإن التعليم المتميز في هذه الدول ، هو الذي أوجد الانسان المتميز ألذي بناها وأوصلها إلى قمة النجاح ، والمجد ، والتقدم . أي أن حجر زاوية نجاح هذه الدول وضع في مدارسها الابتدائية ، وأن التعليم الممتاز للطفل الصغير كان الأساس في خلق الوطن الكبيرالحديث الديموقراطي الممتاز . الله سبحانه وتعالى خلق أطفال العالم منذ آدم وحواء وساوى بينهم من حيث التركيب البيولوجي لعقولهم ، أي أن مكونات العقل الأحيائية عندهم واحدة وإن إختلفت نسب ذكائهم .
العقل كعضلة هو صناعة ربانية ، ولكن تطوير، وتعليم ، وتهذيب ، وصقل هذه العضلة صناعة إنسانية . حقيقة أن العلم أثبت أن نسب الذكاء قد تختلف من طفل إلى آخر، وان هناك عباقرة ، وأذكياء ، ومتوسطي ذكاء ، وأغبياء ، ولكن الذكاء أو الغباء ليس مرتبطا بأناس معينين ، أو بأجناس معينة ، أو بجغرافيا معينة تخص جزأ ما من العالم .
بل إن كل طفل يستطيع أن يكون ذكيا بشكل من الأشكال ، إذا وفرنا له البيئة التعليمية والتربوية التي تمكنه من ذلك ، وإن ألأطفال العباقرة ، وألأذكياء ، وألأغبياء موجودون في كل مجتمع ، وكل بيئة مهما كانت درجة تقدمها أو تخلفها. في فنلندا على سبيل المثال ألمدرسة الابتدائية تمتد لمدة تسع سنوات وتجمع بين الرعاية ، والتربية ، والتعليم . المنهج التعليمي لهذه المرحلة يشمل المواد التالية : أللغة الأم (..في فنلندا لغتين رسميتين : اللغة الفنلندية واللغة السويدية ولهذا فإن الطالب يختار إحداهما ) ، ولغة أجنبية يختارها الطالب من مجموعة لغات من بينها ( الابجليزية ، والفرنسية ، والألمانية ، والروسية ) ، وألأدب ، وعلم البيئة ، وعلم الصحة ، وألدين والأخلاق...لاحظ الربط هنا بين الدين والممارسات الأخلاقية للانسان .. ، والتاريخ ، والعلوم الاجتماعية ، والرياضيات ، والفيزياء ، والكيمياء ، والأحياء ، والجغرافيا ، والتربية الرياضية ، والموسيقى والفن ، والأشغال اليدوية والمنزلية .
بالنسبة للدين يستطيع الطالب ان يختار دراسة أي دين من الديانات التالية : ألمسيحية : يمكن للطالب أن يختار واحدا من ستة مذاهب مسيحية ، أو الاسلام ، أو البوذية ، أو اليهوديهة ، أو البهائية .
في اليابان وبالاضافة إلى المناهج الدراسية والمدارس الحديثة والمدرس المؤهل ، فإن التعليم الابتدائي والثانوي يركز على ما يمكن تسميته تنمية الشعور بروح الجماعة والمسؤولية لدى التلاميذ بدئا بالبيئة المدرسية المحيطة بهم . ولأنه لا يوجد عمال نظافة في المدارس ، ولا يوجد فراشين لتقديم الشاي والقهوة ونقل الأوراق بين المكاتب ، فان الطلاب والمدرسين في كل مدرسة يابانية هم الذين يقومون بتنظيف المدرسة يوميا .
أي إنهم يقومون بكنسها ومسح الأرض ، وتنظيف دورات المياه ، والمحافظة على المباني وعلى الفصول ، وعلى التقنية الموجودة في فصولهم وفي المدرسة ككل ، ويقومون بجمع أوراق الشجر المتساقط ، ووضع القمامة في أماكنها . المدارس اليابانية تقدم وجبة غداء مجانية ساخنة للطلاب يتناولونها في كافيتيريا المدرسة التي لاتوظف إلا الطباخين والمتخصصين في التغذية . والمدهش أن هذا المطعم المدرسي الذي يقدم الغداء لمئات الطلاب يوميا ، لا يوجد فيه عمال لتوزيع الطعام على الطلاب ، ولا عمال نظافة لتنظيف الطاولات والتخلص من الصحون ، أو لتنظيف الأرض ومسحها .
كل هذه الأعمال يقوم بها الطلاب . إنهم يقسمون أنفسهم في ثلاث مجموعات ويتفقون على دور كل مجموعة ويلتزمون بذلك ويقومون بعملهم بصورة ممتازة ومنظمة طيلة العام الدراسي وبدون صراخ ( ولا طوشات ولا محسوبيات تماما كما يفعل ما يسمى بقادة الدول العربية في مؤتمرات قممهم .) المدرسون قد يساعدون الطلاب إن أرادوا ، ويفعلون ذلك عندما تكون هناك حاجة . ألهدف من هذا ألنظام في المدارس اليابانية هو تعليم الأولاد والبنات في هذا السن المبكر أهمية الاعتماد على النفس ، وأهمية المشاركة في بناء شخصية الفرد ، وتعليم الأطفال منذ الصغر أن كل فرد في المجتمع يجب أن يتحمل المسؤولية في خدمة نفسه وخدمة مجتمعه .
التعليم في الوطن العربي وخاصة في المرحلة الابتدائية يعاني من مشاكل أساسية . كشف تقرير " رصد التعليم للجميع " ألذي أصدرته أليونسكو في عام 2014 أن نصف الطلاب العرب لا يتلقون أساسيات التعليم في مدارسهم . وأن التعليم يعاني من نقص التمويل ، ومن حجم الصفوف المكتظة بعدد كبير من الطلاب ، ومن المناهج الغير ملائمة ، ومن عدم وجود نظام حديث للتقييم ، ومن نقص في التقنية الحديثة في الفصول ، ومن طرائق وعلم أصول التدريس ، ومن هيمنة الدولة ، ومن عدم إنصاف المدرسين اللذين لا تكفيهم مرتباتهم ويضطرون للبحث عن مصدر إضافي للرزق لاعالة أسرهم .أضف إلى ذلك أن معظم مدارسنا أقل من المستوى المطلوب في نظافتها ، وبنيانها ، وإداراتها وبتجهيزاتها ونشاطاتها .
على الرغم من المشاكل التي يعاني منها التعليم في الوطن العربي ، فإنه لا يمكن تجاهل ألانجازات ألتي تحققت وبصورة خاصة في فلسطين رغم الضغوط ، والعقبات ، والسياسات التي يضعها الاحتلال لاضعاف التعليم في المدن والبلدات والقرى الفلسطينية . إحصائيات اليونيسكو تثبت أن نسبة ألأمية بين الفلسطينيين هي الأقل في الوطن العربي بعد دولة قطر . ويفيد تقرير اليونسكو عن نسب التعليم في العالم عام 2015 ما يلي :
في الوطن العربي حلت قطر في المرتبة الأولى بنسبة تعليم تصل 97.8 ، وفلسطين 96.7 ( في غزة النسبة 98.8 اعلى نسبة في الوطن العربي ومن أعلى النسب في العالم ) ، والاردن 96.5 ، والكويت 96.2 ، والبحرين 95.7 ، وعمان 94.8 ، والسعودية 94.7 ، والامارات 93.8 ، ولبنان 93.0 ، وتونس 81.8 ، والجزائر 80.0 ، والعراق 79.0 ، ومصر 75.0 ، والمغرب 72.4 أما في باقي الدول العربية فإن نسبة التعليم ادنى من هذه النسب . الملفت للنظر أن فلسطين وعلى الرغم من كل المآسي والتشرد والاحتلال ومحاربة إسرائيل الممنهج للتعليم ، فان نسبة التعليم في فلسطين أعلى منها في دول متطورة جدا كسينغابور 96.6 ، وماليزيا 94.6 ، والبرازيل 92.6 وتتساوى مع اليونان .
هذه الحقائق هي شهادة إكبار وإجلال لمعلمي فلسطين ، وطلاب فلسطين ، ولشعب الجبارين الذي لايقهر . لا شك أن الفضل في وصول الشعب الفلسطيني إلى هذا المستوى المميز عالميا في التعليم ، يعود إلى إيمان الشعب الفلسطيني بالعلم وأهميته ، وبفضل الجهود الرائعة والرائدة للمدرس الفلسطيني . شعبنا مدين للمدرسين الفلسطينيين الذين وقفوا إلى جانب شعبهم في أقسى الظروف ، وعلموا العالم معنى الولاء للوطن ، واثبتوا للدنيا كلها أننا شعب حضارة وعلم ووفاء لوطننا ومواطنينا .
إن من واجب كل فلسطيني أن يعتز ويدعم معلمي فلسطين الأبرار الذي بذلوا كل جهد ممكن ، واستمروا في تعليم أبنائنا وبناتنا في مدارسهم وبيوتهم وفي كل مكان ، للتغلب على سياسات الاغلاق والتعطيل ألدراسي التي مارسها ويمارسها الاحتلال لاضعاف تعليمنا وتجهيل شعبنا ، وأنهم في حالات كثيرة أمضوا شهورا وهم يعملون بدون إستلام مرتباتهم لاعالة أسرهم ، وتحملوا هذا الظلم والمعانات من أجل وطنهم .
على الرغم من التقدم افي التعليم لذي حصل في الوطن العربي منذ الاستقلال وحتى الآن ، والذي زود مجتمعاتنا باعداد كبيرة من الأطباء ، والهندسين ، والمدرسين ، والصيادلة ، ورجال الأعمال وغيرهم الذين يقدمون خدمات جيدة للناس ، إلا أن فلسفة التربية التي يقوم عليها النظام التعليمي في الوطن العربي ما زالت مسيسة وإن جزء لايستهان بة من المنهج الدراسي ، وخاصة التاريخ والعلوم الاجتماعية ، مبني على رؤى واستراتيجيات سياسية هدفها حشو عقل الطفل بمعلومات مشوهة وغير صحيحة لا تسهم في تكوينة علميا ثقافيا بطريقة تلائم حاجات إنسان هذا القرن . ألاصلاح التعليمي عملية مستمرة ولا تتوقف أبدا في دول العالم الحريصة على الاستمرار في التقدم وتقديم أفضل الخدمات لشعوبها .
مدارسنا ونظم تعليمنا في الوطن العربي بحاجة ماسة إلى إصلاح شامل ، وخاصة تعليمنا الابتدائي التكويني الفاشل الذي كان الأساس في إنتاج جيوش من الجهلة وأشباه المتعلمين وعديمي الثقافة ، وجميع أنواع التكفيريين اللذين لا يعرفون قيم الاسلام التسامحية التي تجل العلم والمعرفة وترفض الجهل والتجهيل .
إنهم لا يستطيعون قراءة العالم الحديث ولا يفهمون دياناته وثقافاته ، ولا ماذا يريدون منا ومنه . فشلنا التعليمي هذا معروف وموثق من منظمات دولية لا شك في مصداقيتها ، وانه موجود وبدرجات متفاوتة تتباين بين قطر عربي وآخر . إنه تعليم شديد الانغلاق ومأدين سياسيا لخدمة النظام في أقطار عربية ، و متحرر وحديث إلى درجة معقولة في أقطار أخرى .
هذا ما انتجه تعليمنا : أمة متخلفة بعلومها وصناعتها وثقافتها وإنسانها . أمة جاهلة ولا مبالية واستسلامية وعاجزة عن معرفة نفسها ، وتعيش على أحلام وأمجاد ماضوية ، وغير قادرة على تغيير وتجديد واقعها . بمقارنة دولنا الفاشلة هذه مع دول أخرى كاليابان ، وكوريا الجنوبة ، وسنغافورة ، وماليزيا ، والصين التي كانت أكثر تخلفا منا قبل ستين عاما ، وبدون ثروات مقارنة بثرواتنا الهائلة ، يتبين لنا أن الذي ساهم مساهمة كبيرة في دفع هذه الدول إلى المجد والتقدم هو أنظمة تعليمها التي أعدت شبابها وشاباتها إعدادا ملائما لبناء الدولة الحديثة . لقد بنت الأنظمة التعليمية التي بنت الانسان قبل أن تبني الاوطان وكانت مصيبة في ذلك.