بذل " زيد " وزوجته قصارى جهدهما في البحث عن منزل متواضع يتناسب مع دخله ، وجاء الفرج من صديق عزيز يخبره عن منزل قابع باستحياء على سفح الجبل ، ذهب " زيد " لمعاينته ، وفي منتصف صعوده الدرج الموصل إليه عاد أدراجه حين وجد أن ساقيه لا تقويان على متابعة الصعود ، مع أنه كان نحيفا ممشوق القوام ، يمتاز بجسم رياضي ، فكان أثناء دراسته في المدرسة عضوا في فريق كرة القدم وكرة السلة ، وما زال يتمتع بهذه السمة ، ويحمد الله كثيرا على فضله بأنه لم تغزه الأمراض التي تنهك الجسد ، فهو ما زال بصحة وعافية ، لم ينل الدهر منه ، ولم يتجاوز منتصف العقد الثالث من العمر . ورأى أنه من المناسب غض النظر عن موضوع اسئجار هذا المنزل ، وعاود الكرة في البحث فلم يعتب حي عليه من أحياء المدينة فقد زارها جميعها ، ومع قلة المنازل التي عاينها فقد كانت جميعها لا تتفق مع المعايير التي وضعها في ذهنه ، فكان القاسم المشترك بينها جميعها أن أصحابها يطلبون فيها أجرة عالية ليس بمقدوره دفعها ، فأدى هذا إلى إعادة التفكير ثانية في استئجار منزل " شريف محسن " ، وشجعه على ذلك أنه رآه في الشارع بمحض الصدفة ، فاستوقفه يسأله عن مواصفات منزله ، وقيمة الأجرة التي يطلبها ، وبعد مداولات ليست عسيرة وافق " زيد " على أن يستأجر المنزل بعد مشاهدته .
وبعد عدة أيام من نقل " زيد " أمتعته إلى المنزل الجديد ، والسكن فيه أخذ يلوم نفسه على استئجاره ، فما أن يضع قدمه على أول درجة من الدرجات المئتين والأربعين المؤدية إليه حتى يتذكر النصب والتعب الذي سينال منه أثناء الصعود ، فكثيرا ما كان يقف ليأخذ أنفاسه قبل المتابعة ، ولولا أعين الرقباء من الجيران لجلس على إحدى درجاته دقائق ودقائق يستجمع قواه لمعاودة الصعود ، كانت أنفاسه كالصفير المتقطع ، يسمع عن بعد يلهث ، وكأنه في سباق العدو لمسافة أميال ، وكان إدمانه على التدخين هو ما أدى إلى ذلك ، ولا ينقطع سماع هذه المعزوفة الموسيقية الصادرة عن صدره إلا بعد أن يصل إلى المنزل ، ويرمي بثقل جسده الذي لم يزد وزنه عن سبعين كيلوغرام ، على أول مقعد يصادفه في البيت ، فقد كلت ساقاه عن حمله ، ولا يستطيع أن ينبس ببنت شفة ، فحلقه وشفاهه جافه لا يستطيع تحريك لسانه إلا بعد دقائق من الجلوس وبعد أن يضع قطرات الماء في فمه ، فيقبل عليها بلهفة وشغف ، ويبقى على هذه الحال ما لا يقل عن ربع ساعة ، فيقوم بعدها يغسل العرق الذي جف على وجهه ، يعد أن استعاد بعضا من نشاطه من خلال هذا الهواء الذي كان يهب عليه من نافذة المنزل الغربية فينعشه ، وكان يعتبره الميزة الوحيدة لهذا المنزل ، وهذه الميزة تنقلب إلى ضدها في فصل الشتاء ، فالبيت يحتاج إلى تدفئة متواصلة ، ويضطر دائما إلى خلع ثيابه عندما يصل إلى البيت لأنها غرقت بماء المطر .
بعد عدة أشهر زاره صاحب المنزل " شريف محسن " يعرض عليه أن يبيعه المنزل بسعر مغر ، فدوت في الغرفة ضحكة مثيرة للاستهجان أطلقها " زيد " ، فانقطع حديث " شريف محسن " الذي نظر إليه باستغراب متسائلا عن سبب هذا الضحك المفاجئ ، ولم يفصح " زيد " عن السبب ، فلا يريد أن يخبره أن منزله هذا يعزله عن العالم المحيط به ، فهو ينزل صباحا إلى مكتبه الذي يعمل فيه ، ويعود بعيد الظهر ، فلا يخرج من البيت نهائيا تحاشيا لصعود الدرج مرة ثانية في اليوم ، واختلق له سببا آخر ، فادعى أنه لا يملك سوى مبلغ ضئيل وفره من راتبه ، فكيف يستطيع أن يدفع ثمن هذا البيت الذي يقدر بالآلاف ، فرد عليه المؤجر يقول :
- إنك يا جار لم تفسح لي المجال في استكمال حديثي ، ولو صبرت قليلا لوجدت أنك بالشروط الميسرة التي سأبينها لك قادر على امتلاك هذا المنزل .
فكر " زيد " قليلا ، وصمم أن يحسم الأمر معه ، فلا يعقل أن يكتب على نفسه الشقاء في صعود هذا الدرج يوميا طيلة سنين حياته ، لا لن يوافقه على رأيه ، إن هذا الدرج يقصف