لأن الأوضاع عادة تزداد سوءا بين لحظة وأخرى ، ناولتها خمسة وسبعين دينارا ، وقلت متلعثما :- هذه قيمة القسط المطلوب .
وبعد أن أكملت " أم سعد " عدها ودون أن يبدو عليها تشنج ، أو إثارة قالت : - هذه خمسة وسبعون دينارا ، وليست مائة دينار .
- لقد خصمت ربع القيمة بناء على بيان القيادة الوطنية الموحدة .
- خذ مبلغك ومع السلامة ، عليك أن تدفع كامل المبلغ .
- إن إصرارك يا " أم سعد" على أخذ كامل المبلغ يجلب لك المتاعب ، لا بد أنك علمت أن الشباب طالبوا سكان الحي بمقاطعة " أبي نزار " ، وأن يتوقف المستأجرون عن الدفع نهائيا ؛ لأنه أصر على تسلم الأجرة كاملة .
- أبلغ بك الحد يا " أبو علي " أنك تهددني بالشباب ؟
- لا ، ليس هذا ما أرمي إليه ، من ناحيتي لا يصل الأمر إلى هذه الدرجة ، ولكنني أخشى أن تصطدمي مع مستأجر آخر .فيشيع أنك تتمردين على قرارات القيادة الموحدة للانتفاضة .
- لا تقلق عليّ ، ودعك من هذه الأقاويل .
- يا " أم سعد " أنا مستعد أن أدفع كامل المبلغ على أن تسمحي لي بتغيير موقع المجلى .
- لا مانع ، غير كما تشاء .
لقد أوحت لي من نبرة حديثها أن لسان حالها يخاطبني أنه قرب الفرج للتخلص من الملاليم التي أدفعها ، رددت ذلك كثيرا على مسامعي كثيرا . غيّر كما تشاء . لقد أخبرني جاري " أبو جميل " أنها تودع آلاف الدنانير في البنك ، وأنها حازت على جائزة البنك وقيمتها عشرون ألف دينار . وبعد مدة تبين أن موضوع الجائزة ما هي إلا إشاعة أطلقها " أبو جميل " ليتحامل المستأجرون عليها ، ويزدادوا قناعة بجشعها ، وقاده إلى إطلاق هذه الإشاعة رفضها طلبه بتحويل المرحاض إلى إفرنجي ، قبل الانتفاضة حيث وضعت موافقة مشروطة بأن يزيد قيمة الأجرة لأن عمله هذا يعد من قبيل التغيير بمعالم المأجور ، وإذا لم يأخذ منها موافقة خطية فستجبره على إخلاء المأجور . إنها تعرف حكم القانون في هذه الأمور ؛ لذلك لم تتردد في الموافقة على طلبي ، إلا أنني لم أفسح المجال لخيالها أن يذهب بعيدا ، فقلت لها : -أريد منك موافقة خطية .
- أعطيك موافقتي إذا دفعت ضعف الأجرة الحالية .
- أعطيك خمسين دينارا زيادة .
- لا ، دعنا من هذا الموضوع ، يجب أن تدفع كامل الأجرة .
- ولكنك خصمت لجاري " أبو جميل " وجاري " أبي خالد " . أراك تعلمت سياسة " الكيل بمكيالين " .
- " أبو جميل " و" أبو خالد " وأولادهما لم يدخل عليهم دينار واحد منذ عدة أشهر ، فالاحتلال منع العمال من العمل داخل الوطن السليب هناك عائلات كثيرة تضررت ، يجب أن نشعر بوضعهم الصعب ، وضعك أفضل بدرجات من وضع الكثيرين .
- " جميل " يقبض راتبه من البلدية ، حيث يقوم بقراءة عدادات الكهرباء في المنازل ، والبلدية تخصم للعاملين فيها نسبة مئوية من فاتورتي الماء والكهرباء مساعدة منها لهم .
- أعرف ذلك ، ولكن البلدية لم تدفع للعاملين رواتب منذ أربعة أشهر ، فلديها عجز مالي ؛ جراء عدم تسديد الكثير من المواطنين لقيمة فواتير الماء والكهرباء المستحقة عليهم منذ بدء الانتفاضة .
- وسلطة الاحتلال تدفع للموظف نصف الراتب فقط .
- من يحصل على نصف الراتب يغنِّي في " عبه " ، ومع كل هذا فأنا مستعدة أن أخصم المبلغ على أن تعطيه لعائلة مستورة .
لقد تملكتني الدهشة عندما سمعت اقتراحها ، لم أصدق ما سمعته ، هذه المرأة الحريصة على أخذ كل فلس ، يخرج من فمها هذا الكلام ، كنت أعتقد أن حبها للمال قد أفقدها الشعور بالشفقة والعطف على الآخرين ، وقررت أن أدفع لها بقية الأجرة . لقد كان هذا آخر لقاء جمعني بها ، وقعت " أم سعد " شهيدة ، أثناء عودتها إلى بيتها بعد تقديم العزاء لإحدى الأسر بشهيدها ، أطلق جنود الاحتلال النار على السيارة العمومية التي تقلها ، وأعلن الناطق بلسان جيش الاحتلال أن السائق لم يمتثل لأمر الدورية العسكرية بالتوقف رغم الطلقات التحذيرية له ، وأفاد السكان القريبون من منطقة الحادث أنه تم إطلاق النار على السيارة العمومية عندما تجاوزت سيارة دورية جنود الاحتلال في الشارع الرئيس في المدينة ، فاستشهد السائق واستشهدت " أم سعد " . وخرجت المدينة تشيع الشهيد والشهيدة ، ولم يسلم المشيعون من القنابل المسيلة للدموع والرصاص يدوي فوق رؤوسهم أثناء دفن الشهيدين . وفي أثناء واجب تقديم العزاء سمعت أنها كانت تنفق على العديد من الأسر المستورة ، وتقدم يد العون لأسر الشهداء ، كما أنني تذكرت مساعدتها لجارنا " أبي حسين " حيث دفعت عنه مصاريف المستشفى كافة ؛ نظرا لسوء حالته المادية . وسمعت أنه جاء في وصيتها أن تكون إحدى العمارات الثلاث من نصيب ابنتها المتزوجة ، وريثتها الوحيدة ، وأن ينفق ريع العمارتين الأخريين على تعليم المحتاجين من الطلبة الجامعيين .