لم يبقى في الكأس سوى قطرات قليلة وشريحة صغيرة من ثمرة الكيوي معلقة بغواية ونضارة على حافته الصقيلة. كيف يبدل القلب ثوبه , فيخلع حلّة الهناء والرخاء ويكتسي بأسمال الأسى وأوجاع الفصول ؟ كيف يضيق الصدر بما رحب وقد كان فضاء للعصافير المغردة بهجة وحبورا؟ كيف تخلو النفس من الفرح والسرور وتغدو مثل هذه الكأس الخالية الفاقدة موغلة في الخيبة والفراغ.
كنا في لحظاتنا المشتركة الأخيرة, نقف معا أمام القطار, تترقرق الدموع في عينيها بصمت يشبه الصراخ, تنقل حقيبتها بتوتر وألم من يد إلى يد في حركة كأنها استغاثة سرية أو نداء أخير.
كنت إلى جانبها مثل الصنم وقد تجمد وجهه بكل تقاسيم الشرق وأساطيره المؤسسة لتعاليم الرجولة وفنّ إظهار التماسك والعنفوان.
صعدتْ إلى القطار , حملها في قلبه ومضى, غاب بها وتلاشت صافّرته الحزينة. ولكن وجهها رغم الغياب, ظل مشرقا في الآفاق بهيا ونضرا مثل هذه الثمرة الغاوية فوق حافّة الكأس الكئيب.
لم يبقى من مرارات الصبر ... سوى قطرات بائسة قليلة.
كنا نخرج ليلا إلى ضفة النهر, تسألني عن الشرق وسحره وغموضه, فكنت أغمض عينيي وأزمّ فمي بفكاهة ظاهرة وإجابة صامتة غامضة, فكانت تضحك بفرح, تترك شفتي معلقتان في الهواء ثم تدس رأسها في صدري كأنها تفرّ مني لتلوذ بي كما تلوذ العصافير بأحضان أيكة ملتفة بأغصان وأوراق وثمار غضة شهية.
رحلتها إلى العالمية سوف تكون من لندن, هذا ما أخبرها به أستاذها ورعاتها المنظمون. هل يمكنني بأن أحلم في أن تكون حاضرا معي في حفلة الافتتاح الكبير... تبسمت ولم اعلّق. أرادت مواصلة حديثها ولكن ملامحي الباردة الهامدة لم تشجعها على المضي..فصمتت وفي قسماتها كلام كثير.
مضى شهر ولم تتصل... اشعر أني سأصاب بالجنون.. من المؤكد أن حفلتها قد لاقت رواجا كبيرا ونجاحا عظيما. لا بد وأنها أصبحت أشهر عازفة بيانو في العالم وصار عندها ما يشغلها عن التفكير أو الاتصال بي. ولكني أنا ولا أحد سواي المسؤول الوحيد عن كل هذا الخراب وعن ما حل في قلبي من يباب, أرادت أن تترك لي عنوانها لكنني لم أعطها فرصة. قلت لها بادعاء أجوف وكلمات ساخرة بلهاء: غدا ستصبحين كبيرة ومشهورة ولن يكون عندك متسع للرد على رسائل المعجبين. نظرت بعتب إلى ملامحي الباهتة ولم ترد.
كنت اعرف أني اكذب... ولكني كنت أتلذذ بأكاذيبي الصغيرة وأنا اجلد ذاتي البطر كية المشرقية المضخّمة تحت أقدام هبل, ذلك الرب الذي مازالت تجلياته الجاهلية تحيا في طبائع الشرق وأهله.
أصبح الكأس خاليا من قطراته الأخيرة, أوغل الحزن في أعماقي واحتفر لنفسه في داخلي حفرة كبيرة. تيبّست كروم الهواء في رئتي, أمحلت مواسم شراييني الدافقة المتوثبة. هاجرت عصافير النهر. حل المساء باكيا ووحيدا, لم تؤنس غربته نجمة ولم يواسيه قمر.
وفجأة أومض الضوء من بين الرماد. تلألأ الكأس وأشرقت قطعة الكيوي المعلّقة على حافّته حين رن هاتفي الجوال. وضعته على أذني دون أدنى تصور لشخص المتصل. تدفقت منه سيمفونية ملائكية :
ألو حبيبي.. أنا أمام البيت.. تعال افتح لي الباب.