أ- مع أنه من الواضح لأى ملاحظ ، ناهيك عن الباحث والدارس ، أن الأمة العربية ، قد دهمتها الصعقة الحضارية ، فصارت على شفا حفرة من الفناء والإبادة ، ما لم تفق وتنتبه وتنقذ نفسها ، فإن أكثر الناس لا يُدركون ذلك لأنهم فى الخدْر موغلون وفى الوهم سادرون . لكن الكارثة الحقيقية أن قادة الأمة ، ومن يتصدون للفكر فيها ، لا يستوعبون الوضْع ولا يفهمون الحال ولا يشْرعون فى الإنقاذ .
فلدى أدنى ملاحظة واعية ، من عربى أو من غير عربى ، يبدو أن العالم العربى يخلد إلى الأرض بثوابت آسرة ، فى حين تنطلق أغلب الأمم إلى آفاق لا حدود لها ، من العلم والفعل والإنتاج . ومع أن لغة العصر وشفرة المستقبل هى التقنية العالية (High Technology) ، فإن العرب لا يعرفون هذه الشفرة ولا تلك اللغة ، وإن كانوا يدمنون إستخدام منتجاتها البسيطة ، التى تتبدى فى الأجهزة الإستهلاكية المنزلية والشخصية .
وعلى الرغم من أن الإستهلاك يؤثر على أساليب التفكير وأنماط السلوك ، فإن العرب يخضعون فى سلبية لهذه التأثيرات ، ويرفضون فى غوغائية تعليم مناهج الإنتاج التقنى ، زعما بأن دراسة هذه المناهج غزو فكرى ، لابد أن يطال التراث .
وحتى عندما تتحدد المشكلة ، وتتضح المسألة ، تبدو المعضلة ! فمن الذى يبدأ بتطوير التراث ، هل هو واجب الأمة أم أنه التزام قادتها من الساسة ، أم هو تطوع واحد أو أكثر من بين أبنائها المخلصين !؟
وفى هذا الوضع ، يلوح أن الحلول تجرى فى دوامات من الدائريات المفرّغة (Viciously Circular) . فاللغة العربية ، فى الأصل ، لغة شعر وشعراء ، فيها جاذبية داخلية ، تشدّ إليها المتحدث بها ، فيُصبح أسير قوة الألفاظ ، وتقابل العبارات ، وتوالى الجدال ، وتداعى الجمل ، بحيث يجرى الكلام ويستمر الحوار ، وهو محبوس فى الألفاظ والجناس والتورية ، بما يسمى بالحصر اللفظى (Pronouncing Dislodge) أو العقدة اللفظية (Phonetic complex) .هذه العقدة اللفظية التى تشل العقل العربى ، وذلك الحصر اللفظى الذى يأسر الفكر العربى ، يحولان بين الأمة وبين اتــّباع المنهج العلمى الذى لا بديل عنه لنقل القول إلى مستوى الفعل ، وتبديل الإستهلاك إلى مجرى الإنتاج ، وتحويل الكلام إلى العمل التقنى . وفى الدراسة السابقة ضـُربت أمثلة كثيرة لما فعله العرب بلغتهم وما أدخلوه عليها من تغيير ، إبان عصر الحضارة الزاهى (الذى يتفاخر به من يتنكبون له ويلتصقون بعهد البداوة ) . ولعله كان من واجب الأمة العربية ، بل من أوجب واجباتها ، أن تقوم بتطوير مهم للغة العربية ، كما فعل أسلافهم فى ذرا الحضارة الإسلامية ، حتى تخرج اللغة من سجن الحصر اللفظى وتتحرر من شلل العقدة اللفظية ، فتتحول إلى لغة علم وهندسة ومعادلات (Equations) ودالات ورياضيات ، بالإضافة إلى ، أو على حساب ، كونها لغة مجادلات ومحاورات ومفاخرات وهجاءات ؛ ذلك أن اللغة الجمالية والحوارية والفخارية والهجائية ، لغة تدور فى مستويات أفقية (Horizontal) حلزونية (Helical) ، فتظل فى حالات الخطاب والتعبير ، فى لفّ ودوران مستمر (Detours and evasion) يتعارض تماما مع المنهج العلمى ، ويتنكب له كلية وجزئية . أما اللغة العلمية (الهندسية الرياضية الفزيائية ، لغة التقنية عملا وفكراً) فهى لغة رأسية (Vertical) منـْطقية (Logical) تسير متدرجة من القاعدة إلى التطبيق ، متصاعدة من المبدأ إلى التحقيق ، متكاملة من معادلة إلى معادلة ، متضافرة من نظرية إلى نظرية.
اللغة العلمية الدقيقة غير اللغة الإنشائية الطنانة (Rhetoric) . فاللغة العلمية لغة محددة ، رأسية ، منطقية ، مباشرة ، متصاعدة ، متكاملة ، أما اللغة الإنشائية فهى لغة غائمة حلزونية عاطفية ، ملتوية ، متكررة ، متفاصلة . ونتيجة لهذة الفروق الجمّة ، فإن الأمة التى تركن إلى الجانب الإنشائى فى لغتها أمة تنأى بنفسها عن العصر ومنجزاته ، وعن العلم ومنتجاته . ذلك أنها تفتقد عقلا وتفتقر لغة ، إلى المكْنـة والقدرة والوسيلة التى تمكنها من المعرفة والتقنية . بل إن لغتها الإنشائية ، بمثالبها وسوالبها ، تقف أمامها حجر عثرة وحاجزا سميكا وسدّا منيعا يقفها عن أى تقدم ، لدرجة أنها تمنع عنها حتى مجرد معرفة نفسها وتشخيص عللها .
فاللغة الإنشائية ، بما تقوم عليه من حصر لفظى وعقدة لفظية ، تنتهى إلى إحداث تناقض فى المفاهيم ، وتضارب فى الموازين ، وتجازؤ فى المعايير ، لذلك فإن من تكون هذه اللغة لسانه وبيانه ، لا يكون متماسكا قط ، ولا يكون متوازنا أبدا ، ولا يستطيع التوافق مع نفسه ، ولا يقدر على التفاهم مع غيره . فهو يؤمن بمتناقضات ، ويعتقد بمتضاربات ، ويسلم بلفظيات ، ويتكلم بمتجازئات ، دون أن يدرك علة مسلكه وسوءة شخصيته ، بل دون أن يقدر على نقد التضارب الذى قد يكون فى نصّ واحد ، أو رفع التناقض الذى قد يكون فى قول بذاته .أما اللغة العلمية فإنها تكون على العكس من ذلك تماما ، إذ هى تركن إلى المعانى أكثر مما تعمد إلى الألفاظ (without much ado) ، ولذلك فإنها توحّد الشخصية وتـُجمع العقلية ، وتدفع إلى التصاعد فى الفكر والتكامل فى العمل .
والإشارة إلى لغة علمية ولغة إنشائية لا يعنى أنه لا يمكن تحويل اللغة التى غلبت عليها الصبغة الإنشائية إلى لغة تغلب عليها النظرة العلمية ، بقدرما يعنى أن أبناء اللغة الأولى (ذات الصبغة الإنشائية) عجزوا عن ، أو قصّروا، فى التأثير الفعال على لغتهم لتحويل مبانيها ومعانيها كيما تصبح لغة علمية تساير العصر وتجارى العلم وتنتج التقنية .
فالعالم العربى ، على شدة اعتداده بنفسه ، واعتزازة بلغته ، ربما كان هو العالم الوحيد ، أو الأمة المفردة ، التى تتعامل فى مجال التقنية بالمعادلات والمبادلات والدّالات المكتوبة بلغة غير لغتها ، هى الإنجليزية غالبا . وليس هذا ما يحدث فى الصين أو اليابان أو روسيا أو غيرها . وقد يدّعى مدّع أن العيب يكمن فى تعلم التقنية (والطب والهندسة) بغير العربية ، وإنما باللغة الإنجليزية التى تؤدى إلى أن يكون مجال التعامل فيها بهذه اللغة وليس باللغة القومية ، غير أنه يُرد على ذلك بأن اللغة السائدة علميا هى اللغة السائدة عالمياً ، وإذا حدث وعرّبت الأمة لغة التقنية والعلوم ، فإنها سوف تنعزل عن التقدم العالمى الذى يحدث ويتنقل بغير اللغة العربية . فتعريب العلم والتقنية مشروط بأن يكون العرب أنفسهم مساهمين فى الإنتاج العلمى والتقنى ، بحيث يكونون على اتصال بكل تقدم وأى تغير ، ينقلونه إلى لغتهم على الفور ، ولا ينتظرون سنين حتى يمكن نقله ، فيحدث لهم التخلف ويقع فيهم التجمد . وعندما كانت الحضارة الإسلامية فى أوجها ، فقد كان تعلم اللغة العربية ضرورة للعلماء والمثقفين الأجانب حتى يطلعوا على هذه الحضارة وينهلوا من منابعها ، بلغتها الأصلية وكتاباتها غير المترجمة ، ولم يأنفوا من ذلك أو يرفضوه ، حتى استوعبوا الحضارة الإسلامية ، علما وعملا ، وبدأوا فى الإنتاج الحضارى والإبداع التقنى ، ومن ثم فعلوا ذلك بلغاتهم .
أهم وأول واجبات الأمة العربية إذن ، للوقوف فى ساحة العصر ، والإسهام فى تشكيل المستقبل الإنسانى ، أن تُجرى تعديلا علميا فى البنية الأساسية للغة العربية (Language in restructure) بحيث تصبح أكثر ميلا وتحصيلا وتعبيرا عن اللغة العلمية بدلا من بقائها دوما ، بمعانى ومبان ، مأسورة فى اللفظية ، محصورة فى الإنشائية .
يضاف إلى ذلك ضرورة العناية بالتركيب والحفاية بالمعنى . من ذلك أن يتم التركيز على التركيب الذى يحدد مسئولية القائل والفاعل دون إهمال ذلك كى تبدو المسئولية مسئولية الغير أو مفعولية الأقدار .
مثال ذلك أن يقول القائل : لقد فاتنى القطار بدلا من أن يقول لقد فوّت أو لقد تأخرت على موعد القطار . ومن ذلك كثير ؛ كأن يقال إن الإناء وقع فانكسر دون أن يقال لقد كـُسر الإناء منى ، أو يقال أن النقود سُرقت دون أن يقال لم أضع النقود فى مكان محكم الإغلاق فسهلت سرقته . ويقال لقد انطلق الرصاص من المسدس فقتل آخر دون أن يقال لم أتوق بغلق المسدس وعدم تصويبه نحو الغير ؛ فوقع حادث القتل . ويقال لم يكن لى نصيب وقسمة فى النجاح أو فى الزواج أو فى غير ذلك من مسائل دون تحديد الأسباب الشخصية والعوامل الذاتية التى أدت إلى الفشل ، بغير تحميلها على النصيب والقسمة .. أى على القدر . وقد يقول قائل : إن ذلك لابد أن يطال كتب التراث ذاته ، لكنه قول غير سديد ، وإدعاء لا يصدر إلا عن دعائية أو غوغائية ، فاللغة الثرية تكون متعددة الجوانب ، غزيرة المسالك ، غنية التعابير ، بحيث تتسع للتعبير الأدبى ، وللتعبير الفنى ، وللتعبير العلمى ، دون أن يمس ذلك كتب التراث أو أسس الاعتقاد فلهذه الكتب مكانتها التى لا تدعو منها الناس إلى نبذ العلم أو هجر العقل أو ضرب التقدم .
والواضح مما سلف أن القصد ليس الإعراض عن اللغة العربية ، بل تطويرها . فاللغة بصفة عامة تتضمن لغات عدة داخلها بصفة خاصة . كأن يقال لغة الخاصة ولغة العامة ، أو يـُقال اللغة القديمة واللغة الحديثة ، أو يـُقال اللغة الإنشائية واللغة العلمية ، وهلم جرا .
وعندما يحدث مثل هذا التطوير للغة العربية ، فتنشأ فيها لغة علمية ، فإن ذلك سوف يمنع ما يجرى حالا (حاليا) من استعمال لفظ عربى ثم لفظ إنجليزى ثم لفظ فرنسى فى جملة واحدة ، ربما لعجز القائل عن العثور على اللفظ العربى المناسب لكى يستقيم كلامه جميعا على العربية وحدها .
ب- وأولى نتائج اللغة العلمية وضع التعريفات وتحديد الضوابط لكل لفظ يُستعمل ، وهو ما لابد أن يبدد كثيرا من الغيامية والضبابية التى تضرب على المجتمع الذى لا يُعرّف لفظا ولا يضبط تعبيرا .
والألفاظ الذى يستعملها العرب دون تحديد وبغير ضبط ألفاظ كثيرة ، غير أن أهمها بصدد الدراسة لفظ الأمة ، وهو لفظ من أصل عبرى يعنى القبيلة . ويلاحظ أن اللغة العبرية تتضمن أكثر من لفظ يفيد معنى الأمة (Umma) ، هى ليوم (leom ، آم am ، جوى goy) . وهذا اللفظ الأخير خُصص للأمم غير اليهودية فصار يقال على الجمع : جوييم .وقد انتقل لفظ الأمة ، وجذره اللغوى أمْ إلى اللغة العربية ، مبنى ومعنى ، فورد فى القرآن إشارة إلى الأمة اليهودية ، وأممها الاثنى عشر ، أى قبائلها ، أى أسباطها . كما ورد اللفظ دائما فى الإشارة إلى جماعة المسلمين ، أمة المؤمنين .
ولم يرد لفظ الدولة بمعناه الحالى فى القرآن ولا فى الحديث ؛ وإنما ورد لفظ دُولة ، بمعنى التداول .وبذلك ظل المسلمون يرون فى أنفسهم ويتكلمون عن جماعتهم ، بإعتبارها أمة . وما دامت الأمة جماعة ، على نمط القبيلة ، تربط أفرادها وشيجة الإيمان لا رابطة الدم ، فإنها شأن القبيلة لا بد أن تشعر بالاضطراب وتميل إلى الإغتراب ، كلما طال بها الزمان أو تفرعت هى فى المكان ، لأن هذا وذاك ، يبعدها عن جذورها وينأى بها عن قواعدها .فعلى قدر ما تكون الأمة مفيدة لأعضائها وأبنائها فى بداية تكوينها فإنها مع تقلب الزمان وتوسع المكان تصير عبئا عليهم ، لأنها تعرقل فيهم أى نمو أوتقدم ، ما لم تتخذ صيغة أخرى . وقد ظلت أمة المؤمنين (المسلمين) متماسكة خلال عهد النبى ، وطوال حكم الخليفتين أبى بكر وعمر .
ومنذ حكم الخليفة الثالث عثمان ابن عفان الأموى ، بدأت الأمة تتحلل فى قبليات وتتخلخل فى صراعات . وأدى التحلل والتخلخل إلى تحويل العقيدة إلى أيديولوجيا ، وإلى تلحّف الحكام الظلمة الفاسقين بمصلحة الأمة ، وما كانوا يرعون إلا مصالحهم . هذا بالإضافة إلى تفتت الأمة فى أمم كان لكل منها حاكم ، وصارت تطلق على هذه الأمم أسماء شتى وأوصاف كثيرة ، منها الخلافة والسلطنة والإمارة ، وما ماثل ذلك . أما أخطر ما آل إليه هذا الحال ، فهو أن تركن قبيلة إلى مفهوم الأمة فتحتل بلادا كثيرة وتستعبد أمما مختلفة ، تحت اسم الأمة الكبرى (أمة المؤمنين) . فالأمويون استعبدوا المسلمين جميعا واستولوا على أموالهم كافة ، باسم الإسلام ، بل جردوا بعض البلاد كمصر من وجود قوة عسكرية لها تحميها . واعتبارا من عهد الفاطميين بدأ الحكام فى جلب العبيد من بلاد القوقاز ووسط أسيا (التتار) وشرق بحر قزوين ، مما أبعد المصرين عن الجندية والعسكرية 12 قرنا ، حتى عهد محمد على .
وباسم الأمة الإسلامية استعمر مصر الفاطميون ، وهم إسماعيليون متطرفون أخلاط من البربر والصقليين (أسلاف المافيا) وكان لهم فى الحقيقة مذهب يخالف الإسلام تماما ، فحاولوا به نقض الدين وتقويض الشريعة ، لولا أن تنبه المصريون . وباسم الأمة الإسلامية استعبد العثمانيون التتار مصر والشام والحجاز وغيرها ، وفرضوا عليها التخلف والجهل والفقر .
فى العصر الحالى ظهرت الدولة الوطنية (أو القطرية) منذ وُلى محمد على حكم مصر (1805) ثم انتشرت هذه الصيغة فى كل البلاد العربية والإسلامية ، فكان لكل دولة دستور خاص بها ، ونظام قانونى يتوافق مع ظروفها ، ونظام سياسى يختلف من بلد إلى آخر ، ما بين ملكية وإمارة وسلطانية ورياسية وغير ذلك ، أما الرابط الذى يجمع هذه الدول جميعا ، فهو أنها نظام قانونى ، وليس كالأمة وضع طبيعى ، كما أن العلاقة التى تربط كل فرد فيها بالدولة ذاتها تقوم على مبدأ المواطنة الذى يساوى بين الجميع ، بصرف النظر عن إختلافات الجنس والعقيدة واللغة والأصل وما إلى ذلك .
لم يستطيع كثير من المسلمين والعرب ، أن يستوعبوا الفارق بين الأمة والدولة ( الوطنية) فأرادوا ، وعملوا ، على أن يفرضوا على الدول واقع الأمة ، وهو أمر أحدث ويحدث اضطرابات بالغة فى الدول العربية والإسلامية ، بل وحيث تعيش أقليات إسلامية فى بلاد أجنبية ، (يقولون أنها دار حرب وليست دار سلام) ، مما يؤدى إلى تقويض نظم الدولة ، وتهديد مواطنيها من مسلمين وغير مسلمين ، دون أن يضيف إلى أمة الإسلام مكسبا واحدا .والتطوير المهم للتراث هو ضرورة وضع تفرقة بين الأمة (nation) والدولة (state) ، وإستيعاب الفروق بينهما ، وإدراك النطاقات المكانية والمجالات الزمانية لكل من الأمة والدولة ، والحفاظ المخلص على النظام الوطنى الصحيح والسليم ، مع وضع صيغة عصرية لإيجاد رباط بين أبناء الأمة الإسلامية ، لا يستعدى أحدا ولا يستنفر حربا .
ج- لما كانت الأمة فى حقيقتها تنبنى شكلا وموضوعا على النظام القَبَلى ، حتى وإن تسمت باسم آخر ، هو الأمة ، فإنها تأخذ على الدوام آلية القبيلة وأساليبها . فالقبيلة تكون ذات وحدة عضوية ، رأسها شيخ القبيلة ، تحت أى إسم يكون ، وجسمها كل أفراد القبيلة . لذلك فإن آليتها لا تسمح أبدا ، كما لا تجيز لأى فرد فيها ، حق التصرف فى حرية أو فردية أو ذاتية . ذلك أنه على كل فرد ، من أصغر طفل حتى أكبر شيخ ، أن يكبت حريته ويمحق فرديته ويسحق ذاتيته ، ليكون نمطا متماثلا مع غيره ، تتشكل قيمه ومثله وتصرفاته وتحركاته ، بما تراكم لدى القبيلة من نماذج الأسلاف وتصرفات الجدود وسوابق الآباء ، بحيث لا يمكن أن يحيد عنها أى فرد ، قيد أنملة أو مس شعره .
هذا النظام الشمولى الصارم ، يجعل التراث جاثما على النفوس ، قالبا للشخصيات ، قابضا للطاقات ، وهو أمر إن جاز فى القبيلة لحمايتها ، فإنه لا يسوغ فى الدولة ، لأنه يحطمها ويقوضها ، ويفرض عليها الجمود والتخلف.
فى الثلاثينات وجه الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت خطابا إلى الشعب وردت فيه عبارة مؤداها أنه رئيس العائلة الأمريكية . ولأن الشعب الأمريكى حريص على الديموقراطية ، وفيه نظام وقانون يسمح بالرد على الرئيس وتصويب ما يقول وما يفعل ، فقد انبرى بعض الكتاب والمفكرين للرد على روزفلت ، رافضين قالته بأنه رئيس العائلة ، وكتبوا فى ذلك أن العلاقة بين رئيس الجمهورية وأفراد الشعب علاقة يحددها الدستور وينظمها القانون ، ولا تحكمها قواعد الأسرة ، وأن الركون إلى فكرة رئيس العائلة مناقضة للدستور معارضة للقانون وعودة إلى عهد القبيلة وآليتها . وقد أدرك روزفلت خطورة ما قال ، وتداعياته السيئة ، فعدل عنه فى خطابه التالى ، وإعتذر عما فرط منه ، وأقر بأن العلاقة بينه وبين الشعب ، وبين أى حاكم والمحكومين فى أى بلد ديموقراطى ، إنما تتحدد بالدستور ، وتنتظم بالقانون .
هذا مثل واضح واقعى للفارق بين الأمة والدولة ، فالأمة تركيب عضوى والدولة نظام قانونى ، وفى الدولة يكون كل فرد حرا فى أن يتكلم ويتصرف كما يريد ، ما دام يتكلم ويتصرف فى حدود الدستور وفى نطاق القانون . أما فى الأمة فلا يجوز للفرد أن يلبس عمامته على هواه ، أو أن ينام على الجانب الذى يريحه ، وإنما هو خلية فى جسم يرسم له حركاته وسكناته ، ويحدد له كيف يفكر وكيف يعمل وكيف ينام ، بل وبماذا يحلم ؟
ومتى ظهر الفارق واضحا بين التراث الشمولى الذى يفرضه تكوين الأمة ، والطلاقة الذاتية التى يعمل لها نظام الدولة السليم ، كان أهم ما يؤدى إلى تطوير التراث ، تفكيك الإتجاه الشمولى الذى يقبض عليه ويفرض وضعه على الجميع ، على أن يحدث ذلك بعلم وبصيرة . حتى تحل محل الشمولية العضوية ، طلاقة ذاتية وحقيقة إنسانية .
إن التراث الشمولى يوطد للشمولية السياسية التى ترفض أى تداول للسلطة ، ويهدد الشمولية الإجتماعية التى تأبى قبول الآخر أو وجود أى معارضة ، وتؤكد الشمولية الذاتية التى تجعل الفرد كالكتلة الصماء بلا عقل حر أو رأى مستقل أو فعل إنسانى .