أُطلقت على الإنسان أوصاف كثيرة ، فقيل إنه حيوان ناطق (Rational being) ، وإنه إنسان عاقل (Homo sapiens) ، وإنه إنسان صانع (Homo creator ) ، وغير ذلك من أوصاف ، إلا أن أقربها إلى الحقيقة وأدناها إلى الواقع ، أن يوصف بأنه إنسان له تاريخ ( أو حيوان ذو تاريخ ). فالحيوان ، كل حيوان ، والطيور ، كل طير ، هو الآن وفى العصر الحالى مثل مثيله من عشرة قرون مضت ، أو مائة قرن خلت ، أو آلاف القرون التى انقضت ، يمكن – على سبيل الافتراض – أن يوضع هذا مكان ذلك فلا يحدث فارقا ولا يقع تغييرا ؛ لأنه بلا تاريخ ، فلا يختزن الحوادث ولا يُراكمْ الخبرات ولا يتوارث التجارب ، إذ هو يتصرف وفقا للغرائز (Instincts) ، وهى واحدة ثابتة لدى كل نوع من هذه المخلوقات ، حشرات ، أو طيور ، أو زواحف ، أو حيوان . أما الإنسان فإنه يتميز بخاصية التاريخية (Historicism) التى تجعله ، بحسب الأصل ، يستفيد من تجاربه وتجارب الجنس الإنسانى كله ، ويراكم خبراته وخبرات البشرية جميعاً ، ويختزن الحوادث التى تقع له وتقع على مدى التاريخ وعلى مدار المسكونة ، بحيث يكاد الإنسان أن يتغير من عصر إلى عصر تبعاً لما يضاف إلى التراث من حوادث وخبرات وتجارب . فإنسان العصر الحالى مختلف إختلافا كيفيا عن إنسان القرن الماضى ، الذى يختلف بدوره عن إنسان قرون خلت . وهكذا ؛ إلا إذا إستطاع فرد أو مجتمع ، بعملية بتر (Amputate) أن يقطع نفسه من التاريخ ، وأن يفصم نفسه من الواقع ، وأن يفْصل ذاته عن أى تجربة أو خبرة أو حادث . فإذا فُـرض ونجح فى عمله هذا ، فإنه لا يعود إنساناً ، ولا يعد بشرا ولا يدخل فى نطاق التاريخ ، ولا يصير فى مجال الناس ، ولا يعتبر فى عداد الأحياء .
ميزة الإنسان إذن ، أنه ممثل لتاريخ البشرية ، فى حيوية وإنفتاحية وفاعلية ، يوجد فيه التراث الإنسانى ، وينمو به هذا التراث ويتواصل . ولا يكون التراث لدى الفرد أو الأمة مجرد طبقات (Layers) متراصة ، لأن معنى تراص الطبقات الحضارية أو التراثية أن تكون كل طبقة (Layer) منفصلة عن غيرها متميزة عما سواها ، وهو أمر يصْدق فى الأوضاع المادية حيث يؤدى التطور الچيولوچى إلى وجود طبقات متراصة ، تمثل كل طبقة منها نتاج عصر معين ، غير أن ذلك لا يصلح فى المجالات الحيوية ، شأن الحياة الإنسانية ، حيث تتمازج التجارب وتتخالط الأحداث وتتراكب الخبرات ، بصورة كيفية ، وليست بمجرد إضافات كمية ، فينشأ عنها فى كل لحظة ومع كل حدث وبعد كل خبرة وإثـْر إى تجربة ، أمر جديد تماماً ؛ يضم كل عناصر الماضى والحاضر ، لكنه يداوم الإختلاف ويُدائب التغيير ويواصل التجديد .
فى أحد تعريفات الحضارة أنها تراكم المعرفة ثم إنتشارها (والتراكم هنا لا يفيد المعنى المادى المحض الذى هو مجرد تكويم) . ومن هذا التعريف للحضارة يمكن القول بأن التراث هو التراكم (غير المادى) للثقافات والعادات والممارسات والتقليديات .
ولفظ التراث لم يكن يوجد أصلا فى اللغة العربية التى كانت تعبر عن مفهوم التراث بلفظ الإرث أو الورث . وفى ذلك روى عن النبى (صلعم) أنه قال : اثبتوا على مشاعركم ( شعائر الحج) هذه ، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم . وقيل فى ذلك إن الإرث أصله من الميراث ، إنما هو ورث ، فـُقلبت الواو ألفا مكسورة . فكأن معنى ما روى عن النبى : إنكم على بقية من ورث إبراهيم الذى ترك الناس عليه بعد موته (وهو ما يعبَّر عنه حالا بلفظ التراث) .
وفى معنى الإرث بمفهوم التراث يقول الشاعر :
فإن تك ذا عز حديث فإنهم
لهم إرثُ مجد ، لم تخنـْه زوافره
ويقول آخر :
ولقد توارثتنى الحوادث واحدا
ضَرَعا صغيرا ، ثم لا تعلونى
يقصد بذلك أن الحوادث تتداوله ، كأنها ترثه هذه عن هذه .
وفى القرآن الكريم ورد لفظ التراث بمعنى ما يخلفه الميت لورثته (وتأكلون التراث أكلا لمّا) سورة الفجر 89:19 . وتطور المعنى بعد ذلك ليشمل مجموع الآراء والأنماط والعادات الثقافية والحضارية التى تنتقل من جيل إلى جيل ، فيقال فى هذا المعنى : التراث الثقافى ، التراث الشعبى ، التراث الإسلامى ... وهلم جرا .
من الأصوب إذن ، ألا يُستعمل فى وصف الحضارات والثقافات والتراثات لفظ الطبقات (Layers) أو لفظ الرقائق (Laminas ، Flakes) ، لأنها لا تتراصّ بعضها فوق بعض أو تُكوّم بعضها جنب بعض ، لكنها تتداخل وتتفاعل وتتمازج وتتشابك وتتراكب وتتخالط وتتعاصد وتتطابخ ، لتقدم تكوينا كيفيا لا تتفاصل فيه طبقة عن طبقة ولا تتعازل فيه رقيقة عن رقيقة ، ويظل التكوين يتغير تغيرا كيفيا ويتبدل تبديلا نوعيا ويتعدل تعديلا ذاتيا ، فى كل لحظة ومع كل تجربة ولدى أى حركة . مثال ذلك أنه إذا ما قام دارس واع خبير بدراسة الثقافة المصرية الحالية فسوف يجد فيها عناصر فرعونية وهلّـّينية (من العصر اليونانى والرومانى) وقبطية واسلامية ، يصعب - إن لم يكن من المستحيل - على غير الخبير المدقق والعالم المحقق ، أن يتبين هذه العناصر أو يتعرف على أصولها ، لأنها تناسجت فى نسيج واحد وتصابغت بصبغة موحدة . كذلك فإن من يدرس الثقافة الشامية (فى سوريا ولبنان والأردن وفلسطين) ، بذات الأسلوب العلمى ونفس المنهج التحليلى ، سوف يلحظ فيها عناصر فينيقية وكنعانية وأدومية وعبرية ومسيحية واسلامية ، وهكذا دواليك فى كل ثقافة وفى أى تراث.
مسالة التراث غالبا ما تكتسب شحنات وجدانية عالية وتنطوى على مشاعر عاطفية ملتهبة ، لأنها تتصل فى جانب بالموروث الدينى ، وتتصل فى جانب آخر بالموجود الوطنى ، وتتصل فى جانب ثالث بالمعروف القبلى . وهذه المشاعر العاطفيه وتلك الشحنات الوجدانية ، تعسّر أى تحليل علمى ولا تيسر أى فهم سليم . ومع هذا فلا مناص من التعرض لهذه المسألة ، فى وجهها المكانى ووجهها الزمانى ، حتى يمكن تفهم أصلها ومدلولها ، وتتبع أثرها ونواتجها .
ثَمَّ نظرية سياسية ترى – فيما يتعلق بالتراث العربى – أنه يشمل كل البلاد التى أصبحت عربية بالثقافة ، بل وتمد الشمول فى رجعية إلى الماضى البعيد ، لتعد كل هذه البلاد عربية منذ بداية التاريخ . ويعنى ذلك أن مصر الفرعونية وبلاد ما بين النهرين (بابل وآشور وكلدانيا) وبلاد الشام الفينيقية والكنعانية والأدومية وغيرها وغيرها ، تـُعدّ بلادا عربية منذ فجر التاريخ ، بما يتأدى إلى أن يكون مينا (3200ق.م) وامحوتب (ح 2780ق.م) واخناتون (1369-1353 ق.م) ورمسيس الثانى (1290- 1224 ق.م) وتحتمس الثالث (1490- 1436ق.م) وغيرهم من الفراعنة عربا ، وكذلك يعد حمورابى (ح 1700ق.م) ونبوخذ نصر (ت 562 ق.م) وسنحاريب (705 – 987 ق.م) وغيرهم وغيرهم ، عربا منذ الأصل . ويلزم عن ذلك أن تعد اللغات الهيروغليفية والآرامية والكنعانية والقبطية وغيرها وغيرها لغات عربية معنى ومبنى .
ويؤخذ على هذه النظرية أنها تـُغرق فى الأيديولوچية التى تقضى على اى منطق علمى واى مبحث سديد ؛ ثم تقسر اسلوبها الايديولوجى على التاريخ كله ، كما تقهر الواقعات على أن تتـّبع قواليها غير السليمة .
هناك تقسيمان لعرب شبة الجزيرة العربية :-
ففى التقسيم الأول : عرب عاربة (وهم قبائل عاد وثمود وطسم إلى آخر ذلك) وقد بادوا جميعاً . وعرب متعربة (وهم اليمنيون القحطانيون) يُعدون عرباً من الدرجة الثانية ؛ وعرب مستعربة (وهم العدنانيون) ويعتبرون عربا من الدرجة الثالثة .
وفى التقسيم الثانى : عرب عاربة اليمنيون القحطانيون (وهم عرب من الدرجة الأولى) ، وعرب مستعربة ، وهم العدنانيون (وهم عرب من الدرجة الثانية) .
يعنى ذلك أن العدنانيين الذين أقاموا فى مكة وما حولها ، هم فى التقسيم العربى ، عرب من الدرجة الثالثة ، أو – فى أحسن تقدير – عرب من الدرجة الثانية . وهذا التقسيم ، أو النظر من العرب العادية أو العرب المتعربة (اليمنيون القحطانيون) إلى غيرهم من العرب المستعربة (أى لم تكن عربا بحسب الأصل وإنما استعربت أى صارت عربا) وهم العدنانيون ، وردَّ الفعل عليه ، هو الذى أوجد صراعات متصلة بين القسمين ، امتد منذ عهد ما قبل الإسلام ، واشتد خلال الإسلام ، حتى حكم التاريخ الإسلامى فى أغلب عصوره .
وفى هذا التقسيم العلمى المستقر للعرب ، لا يوجد مكان فى العروبة لغير أبناء شبه الجزيرة العربية ، والقبائل العربية (الغساسنة) التى كانت فى شمال شبه الجزيرة ، إلى الجنوب من الشام ، وكذلك القبائل العربية التى كانت فى شرق شبه الجزيرة إلى الغرب من بلاد فارس والتى كونت مملكة الحيرة ؛ هذه وتلك كانت قبائل عربية من عرب شبه الجزيرة ، العرب المستعربة ، ثم نزح بعضها إلى الشرق وبعضها الآخر إلى الشمال .
عندما انتشر الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية ،إلى بلاد الشام ومصر وفارس وشمال افريقيا ، نشأت عروبة ثقافية تجمع البلاد العربية الحالية ، ما يقع منها فى شبه الجزيرة العربية والمسماة بالدول الخليجية حالا ، والعراق ، ومصر ، وسوريا ولبنان ، والأردن ، وفلسطين ، بالإضافة إلى بلاد المغرب العربى ليبيا وتونس والجزائر والمغرب (وموريتانيا) والسودان . فهذه البلاد صارت عربية بالثقافة ، لكنها ليست عربية بحسب الأصل . ذلك أن القرآن الكريم هو أساس الإسلام ، وهو كتاب عربى (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً) يوسف 12 : 2 ، (وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) النحل 13 : 103 .
وقد صار القرآن هو عماد ثقافة البلاد الإسلامية ، كما صارت لغته العربية هى لغة البلاد العربية المذكورة ، فى حين أن بلاد فارس (إيران) وتركيا ، تمسكت كل منها بلغتها الأولى ، ومن ثم لم تصبح عربا ، أو تدخل ضمن العروبة الثقافية .
أما عن اللغات التى كانت مستعملة فى البلاد العربية قبل الإسلام فهى لم تكن العربية قط ، إلا فى شبه الجزيرة العربية (البلاد الخليجية) . وفيما خارج هذه المنطقة كانت توجد اللغة المصرية القديمة (التى كانت تكتب بالهيروغليفية ثم بالديموطيقية والهيراطيقية) ثم اللغة القبطية (وهى المصرية القديمة تكتب بحروف يونانية ، مع إضافة سبع حروف يونانية) ، واللغة الكنعانية (التى نشأت منها اللغة العبرية) واللغة الفينيقية واللغة الآرامية ، وغيرها . وهذه اللغات ليست عربية ، بل ولا تتصل باللغة العربية بسبب . فاللغة المصرية القديمة والقبطية من مجموعة اللغات الحامية السامية (حوالى 6000 ق.م) واللغة العبرية من مجموعة اللغة الكنعانية (1100 ق.م) واللغة الأكادية مجموعة وحدها (2000 ق.م) ، واللغة الآرامية مجموعة وحدها كذلك (9000 ق.م) نشأت منها السوريانية والآرامية الغربية . أما اللغة العربية فمجموعة مغايرة نشأت منها اللغة الحميرية والعربية الكلاسيكية (وقد بادت واندثرت) والعربية الحديثة (وقد نشأت فى غموض لم يكشف عنه التاريخ بعد ، واكتملت قبل قرن من ميلاد النبى ، تقريبا) . هذا البيان العلمى يقطع بعدم صحة المزعوم الايديولوچى والموهوم الدعائى ، الذى يرى أن كل لغات منطقة الشرق الأوسط تندرج تحت لغة واحدة هى اللغة العربية ، فى حين أن الثابت علميا والصحيح واقعيا أن اللغة العربية الحالية هى أحدث لغة من لغات الشرق الآوسط ، كما أنها من مجموعة تختلف عن مجموعات غيرها من اللغات كالهيروغليفية والآرامية والعبرية وغيرها .
ذلك المزعوم الأيديولوچى والموهوم الدعائى لابد أن يفضى إلى مناقضة ومعارضة . فشموليته وإطلاقه لابد أن تعنى أن اللغة العبرية لغة عربية ، وأن الثقافة العبرية ، والشريعة اليهودية قسم من الثقافة العربية ورافد من اللغة العربية ، وهى مناقضة غريبة ليس لها أساس علمى أو سند واقعى ، ولا يوافق عليها العرب ولا يرضى بها اليهود ، وهى – فى كل الأوضاع – مناقضة لمنطق التاريخ معارضة لواقع الحال .
وقد كان يمكن فهم هذا الإلحاح على الخطأ والإصرار على الجنوح لو أن القصد منه كان يتجه إلى مزج كل تاريخ العالم العربى منذ القدم ، ونسج كل ثقافات المنطقة عبر التاريخ ؛ لكن ذلك أو ذلك لم يحدث ، وإنما وقع ما هو مخالف له تماماً ، مجانب له كلية . ذلك بأن التأكيد الأيديولوجى والتخريج اللاعلمى ينتهى فى غايته إلى أن يقطع من تاريخ المنطقة كل ما هو قبل الإسلام من ثقافات ولغات وتراثات ، ويفصم جميع ما كان يسبقه من حضارات وشرائع ، ويفصل أى تاريخ لها وأى واقع لديها . فغالب الناس فى منطقة الثقافة العربية حالا (حاليا) يجهلون ويرفضون ، بل يستنكرون ، الحضارات والثقافات السابقة على الإسلام فى المنطقة ، مثل الحضارة المصرية والحضارة البابلية والحضارة الأشورية والحضارة الفنيقية وغيرها ؛ هذا فضلا عن رفضهم القاطع للثقافة العبرية بكل عناصرها المعتقدية والتاريخية والأيديولوجية .
وفى التركيز على الثقافة الإسلامية والتأكيد على الهُوية العربية ، فإن العرب جميعاً – فى عروبتهم الثقافية – يقفون عند الفترة الاولى وينحبسون فى المرحلة البدائية من التاريخ ، حيث مرحلة ما قبل الإسلام (المسماة بالعهد الجاهلى) ثم فترة جيل واحد من تاريخ الإسلام . فهمْ فى هذه المرحلة وتلك الفترة ، يقفون ولا يبرحون ، يمسكون ولا يتقدمون ؛ كأنما التاريخ قد وقف والزمان قد سكن والوجود قد خفت والحياة قد إنتهت .ولا تجديد بعد ذلك ، ولا إبداع يليه ، ولا إنشاء يعقبه ؛ إنما هى نماذج سابقة تُحتذى وقوالب سالفة تـُتبع . الشعر لم يزل فى قالب القصيدة ، وفى نموذج العمود ، وربما فى ذات المعانى والعبارات السلفية . فيما عدا بعض التجديد فى المعانى وفى التعبير وفى الأسلوب ، يظهر واضحا فى شعر شوقى (مثل المعانى المستحدثة فى قصيدة مصاير الأيام) والتعبير الذى تأثر بالإطلاع على الشعر الفارسى والهندى والإنجليزى والفرنسى ، وصياغة الرواية الشعرية ، على النمط العربى ، مثل رواية مجنون ليلى ومصرع كليوباترا وغيرها ، وهو تجديد لم يزل فرديا ولم يهز أسس التقليدية أو يقوض دعائم السلفية . وفى الموسيقى لم يزل قالب الأغنية (والدور) هو السائد حتى الآن ، وهو عبارة عن جملة موسيقية واحدة (مثل نصف بيت من القصيدة) هى الأساس الغالب على الأغنية ، فيما عدا بعض التجديد الذى قام به سيد حجازى وعبده الحامولى ومحمد عثمان وسيد درويش ومحمد عبد الوهاب فى الأغانى والموسيقى الشعبية ، وما يقوم به موسيقيون آخرون فى نطاق التأليف التركيبى (السيمفونى) وهى مجهودات فردية كذلك تعمل جاهدة على خلق مناخ جديد وإيجاد ثقافة مستحدثة ، لكنها تسبح ضد تيار عنيف من التقليدية والسلفية يجرف أغلب الناس .
وفى أوروبا لم يحدث ذلك إطلاقا ، وإنما كان التغيرّ والتبدل والتقدم والنمو هو لُحمة وسدى كل عمل وكل فن . فبعد العمارة الأغريقية (1000 ق.م – 146 ق.م) ظهرت العمارة الهلينينية (400 – 300 ق.م) بعناصرها الجديدة وزخارفها المعقدة وإتجاهها نحو العناية بتخطيط المدن ، ثم ظهرت العمارة البيزنطية (330م) وتبلورت طرزها فى راقينا والقسطنطينية ثم امتدت إلى خارجها ، وهى ذات الأساليب الرومانية تعدلت باستعمال اللون فى الخامات والعناصر الزخرفية التى أُدخلت عليها عناصر شرقية (كما يبدو فى كنيسة سان مارك بالبندقية) وغلبة الزخرفة (كما يظهر فى كاتدرائية موسكو) . وتلى ذلك ظهور العمارة الرومانية (1100 – 1300م) وهى تتميز بالعودة إلى القباب المدببة الذى سرعان ما تحول إلى الطراز القوطى بخصائص معينة ، فأقيمت على نمطه مبانى شهيرة مثل كنيسة كلونى فى فرنسا والكاتدرائية بألمانيا . أما الطراز القوطى ذاته فقد بدأ منذ القرن الثانى عشر واستمر حتى بداية عصر النهضة . وقد استـُخدم الإصطلاح أصلا للإشارة إلى ضرب من الأبنية اعُتبر همجيا (على أساس أن القوط الوندال شعوب همجية حطمت روما مركز الحضارة الكلاسيكية) ، وتميز الطراز القوطى بالقباب والأقواس المدببة (التى أُخذت أصلا من الشرق الأوسط) . وأقدم مثال للطراز القوطى الكامل كنيسة نوتردام بباريس (1163 – 1230) . وفى عصر النهضة – اعتبارا من القرن الخامس عشر – انتهى الطراز القوطى وقامت ثلاث مراحل للعمارة :
المرحلة الباكرة ، ثم المرحلة الكلاسيكية (1500 – 1580) ثم المرحلة الأخيرة أو عصر الباروك والروكوكو (1580 – 1780) .
وفى الموسيقى إختط الموسيقيون خطاً آخر غير الموسيقى الشعبية ، فبدأوا منذ القرن التاسع فى إتباع أسلوب التركيب (Construction) الذى يقوم على المزاوجة بين لحنين أو أكثر (Polyphony) ، ثم أوجدوا قوالب متعددة للتعبير الموسيقى ، خلافا للأغنية الشعبية . فقدموا قالب الأغنية الراقية (Lyric) ، والافتتاحية ، والسيمفونية ، والسوناتا ، والكونشرتو ، والرباعيات وغيرها ؛ هذا بالإضافة إلى وجود الأوبرا الإيطالية التى تعتمد أساسا على الغناء ، ومن أعلامها ڤردى وبوتشينى ، والأوبرا الألمانية التى تـُعنى أكثر بالموسيقى وهى تنسب لڤاجنر . ويضم التراث الموسيقى الغربى العصر الكلاسيكى (1750 – 1820) ثم العصر الرومانسى (1820 – 1900) . وبينما تقوم الموسيقى التركيبية على التوافق أو النشاز بين الألحان ، قدم آخرون ، منهم جروشوين ، نماذج للتركيب بين الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الجاز (الأمريكية الأصل).
وفى الآدب ، وبعدما بدأ الأوربيون يعبرون فى لغاتهم الأصلية الوطنية ، بدلا من اللأتينية ، أوجدوا أشكالا متعددة للتعبير الأدبى ، مثل الرواية والقصة ، والقصة القصيرة والمسرحية (التى كانت قد أكتملت لدى الأغريق فى القرن الرابع ق.م على يد يوربيدس وسوفوكليس) ، كما أوجدوا فى نطاق كل قالب من هذه أشكالا متنوعة متغيرة . وفى الشعر وُجدت القوالب التعبيرية العادية ، وإلى جانبها السونيت (Sonnet) والأنشودة ، مثل انشودة الملاح القديم لصموئيل كوليردچ ، والمسرحية الشعرية التى ازدهرت على يد شكسبير ، إلى غير ذلك.وحتى فى المنطق والهندسة لم يقفهم التراث ولم يغلـّهم التاريخ ، وإنما أوجدوا إلى جانب الهندسة الاقليدية ، هندسة ريمان وهندسة لوبانشوفيسكى، وهى صياغة مخالفة تماماً . كما أوجدوا إلى جوار المنطق الصورى الذى صاغه أرسطو (384 – 322 ق.م) المنطق الرياضى (ليبنتز وبرتراندرسل) والمنطق الذرى .
هذا نهج سديد لفهم التراث والتعامل معه . فالتراث ضرورة لكى تبدأ الجماعة من غير فراغ ، لكنه لا ينبغى أن يكون حائلا دون التقدم مانعا من التطور .
ولا شك أنه من الخطأ البين ، ومن حوائل التقدم وموانع التطور ، أن تظل الأمة العربية جامدة لا تنمو واقفة لا تتحرك ، عند بداياتها الأولى ، فلا تفتأ محكومة بأساليب وأنماط الشعر الجاهلى ، مربوطة بنظام وشكل الحداء البدائى ؛ هذا فضلا عن انحباسها فى ظروف الفتنة الكبرى وانحصارها فى الصراعات والشعارات والسياسات التى نبعث منها وصدرت عنها ، لا تنفك عنها ولا تنفلت منها .
إن الفهم الصحيح للتراث أن تعد كل الثقافات والحضارات واللغات التى كانت فى المنطقة العربية ثم بادت منها ، قبل ظهور الإسلام أو بعده ، ضمن التراث الخاص بالمنطقة العربية كلها ، بغير أن تـُقهر على الاصطباغ بالعربية أو تقسر على اعتبارها من روافدها ، مع أنها مجار كاملة ونـُهر شتى ، كانت قبل العربية ، ولم تكن روافد لها . وعندما يستقيم الفهم على هذا الوضع يمكن إنتخاب ما يصلح من هذا التراث لمناسجته بالثقافة العربية المعاصرة ومضافرته بالجهود الإنسانية الحالية ، على أن تعاد صياغة هذه الجهود وتلك الثقافة على أسس من ضرورة التقدم ولزوم النمو واعتناق المفهوم الصحيح للتراث ، بأنه ليس فترة واحدة أو حالة جامدة ، لكنه فترات مستمرة على مدى التاريخ وحالات متواصلة فى المجال الإبداعى .